الوطن واختبارات المنفى !!
خيري منصور
27-08-2014 03:42 AM
ما يميز الاحتلال بمختلف صيغه والأزمنة التي يحدث فيها أنه ليس مجرد نوبة أو حالة عابرة، فهو ممتد عبر كل ثانية ودقيقة وساعة، ويطال التفاصيل كلها في الحياة اليومية لضحاياه، لكن المناهج التقليدية لفهم الاحتلال حرمتنا من جوانب أخرى، منها الاجتماعي والنفسي فما من احتلال لم يكن من أعراضه وجود عملاء، سواء كانوا صغاراً يبيعون ضمائرهم وأوطانهم وكرامتهم بأبخس الأثمان أو مارشالات من طراز بيتان الذي أعلن جمهورية فيشي في جنوب فرنسا خلال الاحتلال النازي.
وهذه مناسبة لتحليل أولي لما يفرزه الاحتلال من نماذج بشرية، فإلى جوار الشهيد ثمة العميل، وبدرجة أقل منه ذلك الذي يفقد بمرور الوقت استحقاقاته الآدمية، بحيث يضطر إلى أن يتقمص في المنفى صفات ليست له، ويتماهى مع الآخرين بدافع الحاجة والتأقلم.
ومنذ غادرت قريتي مرغماً عام 1968 وأتيح لي أن أعيش في العديد من البلدان العربية وغير العربية، فقد شاهدت بأم العين افرازات الاحتلال، مثلما شاهدت ردود الأفعال الباسلة عليه ومن تلك الافرازات أن المنفى يختبر الإنسان ويضعه على المحك الصعب فإن لم يكن ذا تنشئة وتربية وطنية وإنسانية أرضعته الكرامة والكبرياء من حليب الأم، فهو عرضة لفقدان التوازن بحيث يمكن استخدامه حتى ضد بني جلدته.
والنماذج التي اضطرتها الظروف والتربية إلى التأقلم لم تلحق الأذى بنفسها فقط بل بالآخرين من حولها، لأنها تقدم نفسها كنموذج قابل للتعميم، ويتوهم من يستثمرون ضعفها وتأقلمها أن كل من اضطر إلى العيش في المنفى هو من هذه السلالة، وقد عانيت شخصياً من هذه الظاهرة في الوطن العربي من محيطه إلى خليجه، ولو قرأ الفلسطينيون الذين أفقدتهم الظروف العسيرة مناعتهم شيئاً مما كتبه إدوارد سعيد عن المنفى أو ما رواه غسان كنفاني عن حكايات وروايات لتلقحوا ضد هذا الفيروس اللعين، الذي يجعل من صاحب الحاجة أرعن كما يقال، مقابل هؤلاء ولعلهم قلة ثمة من يحملون مساقط رؤوسهم في دورتهم الدموية، ويشعرون أن المنفى مجرد جملة معترضة في حياتهم وأنهم كسائر البشر ذوو طفولات تستحق الحسد أحياناً أكثر مما تتسول الإشفاق!
وتبعاً لنظرية التحدي والاستجابة التي اعتبرها المؤرخ ارنولد تويني المحرك لجدلية التاريخ والعصيان على ديكتاتورية الجغرافيا فإن من يجد نفسه خارج وطنه رغماً عنه، عليه أن يختار بين أن يكون مجرد طارئ وعالق بالمكان وبين أن يستدعي كل ما لديه من احتياطات عقلية وجسدية كي يبقى كما هو، وتنبت أغصانه على الجذع والجذر اللذين نشأ منهما!
الاحتلال رغم قسوته ولا إنسانيته هو اختبار يفرز قمح الأوطان عن زوانها في غربال المنفى!
(الدستور)