بين فقه الكليات وفقه الجزئيات
د.رحيل الغرايبة
26-08-2014 03:33 AM
ليس من باب المبالغة والتهويل أن يتم تشخيص معضلة العالم العربي والإسلامي، ومعضلة الأجيال الجديدة، وفي طريقة تعاملها مع الأحداث الكبيرة والصغيرة، وخاصة تلك الشريحة الواسعة من أبناء الحركات الإسلامية على امتداد الساحة الفكرية من أقصى درجات التطرف إلى أقرب درجات الاعتدال، بأن جوهر المشكلة يتلخص « بالمنهجية» الفكرية والفقهية التي صاغت العقل المعاصر، حيث ارتكزت على فقه الجزئيات، وتم اغراق الجيل في متاهة الاختلاف الكبير بين الفقهاء وأئمة المذاهب، ورجال الحديث، وتم إغفال كليات الدين ومقاصده ولم يتم التركيز على صيانة قواعد الشريعة ومبادئها وغاياتها الكبرى.
الدين عبارة عن منظومة قيم، ومجموعة مبادىء، وقواعد كبرى وأصول عميقة، تشكل جوهر الشريعة وإطارها العريض، وهي التي تقوم على القطع الذي لا يحتمل خلافاً بين الوحي والعقل، وهي سبب صلاح الدين لكل زمان ومكان، أما الجزئيات والاجتهادات والظنيات ما هي إلّا نوع من التطبيق وصورة من صور التنزيل على الواقع، التي تخضع لقدرة البشر على الفهم وقدرتها على التنفيذ، وقدرتها على تمثل هذه القواعد وهذه المبادىء، بما آتاها الله من معرفة وعلم وقدرة على الاجتهاد، والتي تخضع للواقع المعاش من أجل تحقيق المصلحة بحسب زمانها ومكانها.
تطبيق المبادىء والقواعد في كل مرحلة يقترب من النموذج والمثال ويبتعد بحسب وسع البشر وطاقاتهم، ويعتريه قصور البشر، ولا يمكن أن يصل التطبيق في أي مرحلة تاريخية من مراحل تطبيق الإسلام إلى الكمال المطلق، لأن النقص طبيعة بشرية، والضعف طبيعة بشرية يظهر أثرها في تمثيل أوامر الله وامتثال مبادىء الشريعة وقواعدها، وبذل الجهد في تحقيق مقاصدها وغاياتها، وتتفاوت المراحل التاريخية من حيث القرب والبعد من الحقيقة بحسب الأشخاص الذين يقودون المرحلة ويشرفون على التطبيق.
تفاعل الناس مع القواعد والمبادىء والقيم أنتج تجارب عملية وتراثاً غنياً من التطبيقات العملية، التي تحمل قدراً من الصواب، وقدراً من الأخطاء والنقائض، فالتراث ليس معصوماً، والتاريخ ليس مقدساً، فهو محل للدراسة والبحث والتنقية والتقويم والعبرة، وكل الناس خطاؤون، ولا عصمة لأحد بعد الرسل والأنبياء، وكلهم منذ الخليفة الأول يؤخذ من قولهم ويرد، وكلهم اجتهدوا فأصابوا وأخطأوا، وعملهم يقاس بظرفهم وواقعهم، وبيئتهم، ويحكم عليه من خلال النظرة النسبية التي تأخذ بعين الاعتبار كل مقومات الحياة وعناصر البيئة وما يحيط بها من ظروف محلية وعالمية يصعب حصرها.
من أشد الأمور بشاعة في الدين، أن يتمسك بعض الأتباع بالجزئيات والظنيات المجتزأة من سياقها، دون ربطها بقواعدها ومبادئها وأصولها، فليس هناك جزئية إلّا وينبغي أن تكون مرتبطة بكليّة، ولا وجود لفرع إلّا أن يكون منبثقاً من أصل، فبعضهم يتمسك بجزئية تهدم الأصل وتناقض القاعدة، في مقصدها وغاياتها، بحجة التمسك بالدين، بطريقة حرفية ضيقة تمتاز بالجهل والسطحية وعدم الفهم، فهؤلاء يسيئون للدين ويهدمون الإسلام، ويشوّهون صورته في نفوس العالم والبشر، وهؤلاء يكرّهون الله إلى عباده، بلا وعي ومن حيث لا يعلمون.
فعلى سبيل المثال كانت غاية عقد الذمة أن يتعرف غير المسلمين إلى الإسلام من خلال المعايشة والواقع فيروا العدل والتسامح والاخوة، حتى يكون ذلك طريقاً لهم نحو الإيمان والهداية، وطريقاً إلى المشاركة الفاعلة في بناء الدولة وحفظها، أصبح اليوم طريقاً للدم والرعب والبغض والتشريد وقطع الرؤوس، واضعاف الدولة، وتقسيم المجتمع، وتفتيت النسيج الوطني وتشويه الدين ومعاني الإيمان، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلّا بالله القائل : « قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا».
(الدستور)