عملية الربيع العربي ومشروع الشرق الأوسط الكبير
د. فيصل الغويين
22-08-2014 04:43 AM
بصرف النظر عن النتيجة التي سيتوصل إليها البحث في دوافع الثورات العربية سواء كانت دوافعا شعبية وعفوية محضة، أم كانت مخططا دفعت به الإدارة الأمريكية لأسباب جيوستراتيجية، ونتيجة لتعقيدات الصراع بين القوى والمحاور الإقليمية والدولية، فقد تحولت الساحة العربية لأرض خصبة ل" لعبة الشطرنج الكبرى"، ولم يعد بمقدور أي حركة سياسية-ومهما كانت أهدافها مشروعة- أن تمنع حصول تقاطعات موضوعية وظرفية تداخلت مع المشاريع والمصالح الأمريكية والغربية للمنطقة.
ويقودنا ذلك إلى البحث عن سر انقلاب وتبدل جدول أعمال العالم العربي من بند مقاومة الكيان الصهيوني والاحتلال الأمريكي، ومسار مفاوضات عملية السلام، الذي كانت تلتف حوله الحركات الإسلامية واليسارية والقومية العربية عام 2010 ، إلى بند الديمقراطية والإصلاح، وتحييد الكيان الصهيوني عن المعركة، والفتنة السنية – الشيعية، واستعداء إيران أولا بدل إسرائيل، وتوجيه العالم الإسلامي بمواجهة روسيا والصين، مقابل التودد والتحالف مع أمريكا والغرب، وتأجيج الصراعات الداخلية بين التيارات الإسلامية والقومية واليسارية والمذهبية بعد عام 2011، مقابل المواجهة مع المشروعين الأمريكي والصهيوني قبل عام 2011.
هذا التحول والانقلاب لم يكن بفعل ديناميات عربية داخلية بحتة كما ظن البعض، بل نتاج عملية جيوسياسية أمريكية خطط لها قبل عام 2010 لتغيير خارطة الشرق الأوسط والعالم، وهو ما أدركته العقول الآسيوية الصاعدة الإيرانية والصينية والروسية، ووضعت حدا لها في الساحة السورية.
وعملية "الربيع العربي" تمثل لعبة "دومينو" واحدة، حيث سيؤدي سقوط نظام عربي واحد إلى تدحرج بقية الأنظمة. وكان من الضروري لتأخذ العملية صدقيتها وزخمها النفسي والسياسي والإعلامي، صعق الرأي العام العربي، والنخب العربية الحاكمة بإسقاط رؤوس عربية محسوبة في ولائها على أمريكا أولا، وهو ما حصل مع إسقاط زين العابدين بن علي، وحسني مبارك، وعلي عبد الله صالح، ومعمر القذافي، رغم أنها رؤوس متخشبة، انتهت صلاحيتها جيوسياسيا وبيولوجيا وشعبيا، مقابل وصول اثر "الدومينو" للإطاحة بالنظام السوري، الذي قطع الطريق على المشروع الأمريكي بتحالفه الوثيق مع إيران وروسيا وحركات المقاومة العربية.
وقد بدأت أحداث" الربيع العربي" من تونس بإحراق الشاب محمد البوعزيزي لنفسه أمام بلدية سيدي بو زيد، وهو عمل فردي عفوي تكرر حصوله في تونس، لكن الحادثة تطورت فجأة على أيدي الناشطين على شبكات الانترنت، وتحولت من احتجاجات مطلبية ونقابية إلى السعي لإسقاط النظام، وتفجرت الأحداث بقوة مع دخول فرق قناصة محلية وأجنبية مشبوهة على الخط، وقتلها عشرات المتظاهرين متسببة برفع حالة الاحتقان الشعبي ضد النظام، إلى أن حدث انقلاب دبره رشيد عمار رئيس أركان الجيش التونسي ضد الرئيس بن علي من خلال خدعة إخراجه من تونس بأوامر عسكرية أمريكية حاسمة.
وقد انتقلت الأحداث إلى مصر بأثر موجة "الدومينو"، وكان هناك جهات جاهزة تنتظر وصول الموجة، بعد أن تم تدريب الآلاف في أكاديمية التغيير القطرية، والمعاهد الأمريكية، وإجراء تجارب ميدانية لإشعال الثورة، وإعطاء المتدربين دروس في التخلص من إجراءات الشرطة المصرية.
وبعد نجاح عمليات "الربيع العربي" في كل من تونس ومصر انتقلت موجة "الدومينو" نحو اليمن ليصل إلى ليبيا وأخيرا سوريا. وقد جرى استقدام فرق قناصة محترفة إلى شواطئ بنغازي الليبية، وفرق من شركة بلاك وتر المتواجدة في العراق والأردن تصل إلى درعا لأجل قتل عدد من المتظاهرين ورجال الشرطة لإحداث موجة اضطرابات أمنية تحضر الأرض ل "الثورات"، وبعدها تبدأ الأحداث بخروج مجموعات منظمة تنتظر إشارة الانطلاق، وتخرج الناس بكثرة إلى الشوارع، وتبدأ السيناريوهات المرسومة بالتنفيذ التدريجي.
ولا داعي للبحث عن الدوافع الأمريكية والغربية والعربية والصهيونية لإسقاط النظام السوري، فالمحاولة الأولى بدأت بصورة معلنة عام 2005 بعد اغتيال رفيق الحريري، غاية ما هناك انه دخل عنصر جديد على المعركة قضى باستدراج تنظيم القاعدة والجماعات التكفيرية من كل أصقاع العالم الى فخ ومعركة بلاد الشام، لاستنزاف النظام والجماعات التكفيرية بحرب طويلة لا تنتهي إلا بهزيمة الطرفين.
ولم يكن من قبيل الصدفة اغتيال أسامة بن لادن في باكستان في بداية أيار 2011 بعد أسبوعين فقط على تفجر أحداث سوريا في 15/3/2011، وبعد أشهر فقط من بدء "الربيع العربي"، وبداية تحضير الولايات المتحدة تسليم مقاليد السلطة في بعض الأنظمة العربية لحركة الإخوان المسلمين. فكان من الضروري لنجاح "الربيع العربي" إزاحة وشطب أسامة بن لادن من المعادلة، كونه شخصية محورية في حسابات الإدارة الأمريكية لترتيب مشروعها للشرق الأوسط الكبير الممتد من تونس إلى باكستان، ولم تصدر أي إدانات إسلامية خاصة من قبل تيار "الإسلام المعتدل" رغم أن الإدارة الأمريكية أعلنت أنها رمت بجثة بن لادن في البحر.!
هذه المعادلة لم تكن عشوائية، فقد تبنت مؤسسات الأبحاث التابعة للبنتاغون منذ سنوات مشروع "بناء شبكات إسلامية معتدلة" يقوم على شقين، الأول : ضرب وإسقاط النظم الاستبدادية التسلطية، وإحلال القوى الإسلامية المعتدلة والديمقراطية مكانها، والثاني: ضرب الجماعات الإسلامية المتطرفة من خلال الجماعات الإسلامية المعتدلة التي استلمت السلطة، أي ضرب القوى والتيارات العربية ببعضها في عملية طويلة الأمد لاستلام وتسليم السلطة، تمهيدا لإعادة ترتيب الموازين، وفرز التيارات والقوى على الأرض، وتعديل خارطة الانتشار الجيوسياسي للشرق الأوسط والعالم.
وهذه ليست المرة الأولى التي تتقاطع فيها المصالح الأمريكية مع مصالح بعض التنظيمات الإسلامية؛ فقد تقاطعت الجماعات الإسلامية الجهادية مع الولايات المتحدة والأنظمة العربية في الثمانينات على صفقة سياسية عسكرية مشتركة لمواجهة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان عام 1979، وضرب إيران بالعراق عام 1980، مقابل الهدنة مع الكيان الصهيوني.
واليوم عقدت بعض التنظيمات الإسلامية بقيادة التنظيم الدولي للإخوان المسلمين صفقة جديدة مع الإدارة الأمريكية تقضي بالمشاركة في إدارة النظم العربية الواقعة تحت النفوذ الأمريكي مقابل التوقيع على كامب ديفيد إسلامي، والعمل على عزل إيران ومحور "البر يكس" من الشرق الأوسط، فدمج الإسلاميين في النظم العربية، وهم من لون طائفي ومذهبي واحد، يعطي الفرصة للإدارة الأمريكية لعزل التمدد والنفوذ الإيراني في المنطقة، وتطويق المارد الآسيوي الصيني الروسي الهندي بحزام من الدول العربية والإسلامية ذات الهوية الإسلامية المؤثرة في المجال الآسيوي ديمغرافيا وسياسيا وعسكريا على النمط التركي، وللأسف فان " الثوار العرب" من إسلاميين وغير إسلاميين وضعوا مصيرهم ومستقبلهم بيد الإدارة الأمريكية التي ساندت جلاديهم خلال العقود الأربعة الماضية. وما نشاهده من أحداث تجري يوميا في العالم العربي لا يجد له تفسيرا ذا صدقية، إلا بعد البحث عن الغرفة السوداء الأمريكية – الأطلسية – الصهيونية، التي تدير الأوضاع من وراء الكواليس.
ورغم أن القياس المنطقي الظاهر للأوضاع العربية مع الزمن الماضي- وقد تبين انه قياس مخادع على المدى الطويل- اظهر وجود حسنات لهذه الحركات والثورات في هدم نظم وإسقاط رؤوس عربية تخشبت وتكلست وشاخت، لكن الثورات لم تسقط هياكل وأسس هذه النظم، بل أعادت ترميمها ومنحها الشرعية الشعبية، كما أرادت واشنطن بالضبط.
وفي المقابل أخفقت عملية "الربيع العربي" في تحقيق بعض أهدافها، ومنها :
1- اكتساح وسيطرة الإسلاميين بصورة شاملة على مقاليد السلطة مما أدى إلى استنفار التيارات السياسية الأخرى، وحصول حالة من الانقسام الحاد، وهو ما لا ترغبه واشنطن بهذا الزخم.
2- وهناك من يرى أن واشنطن تعمدت تسليم الإسلاميين السلطة قبل ترتيب وضع حلفائها الليبراليين في النظم الجديدة، كي يتخبط الإسلاميون بمتاهات السلطة ومشاكلها، ويخسروا شعبيتهم ومصداقيتهم.
3- فشل عملية إسقاط النظام السوري، وهي الجائزة الكبرى لواشنطن والكيان الصهيوني من إطلاق عملية "الربيع العربي".
وفي تحليل سريع لأسباب الفشل يمكن رصد ما يلي:
1- نقاط الضعف في الهندسة السياسية الأمريكية نتيجة غربة المنظورات الأكاديمية والبحثية الأمريكية عن الوقائع الميدانية العربية، وهو ما يسميه الخبراء "النظرة من الخارج"
2- فشل القوى الالكترونية العربية التي دعمتها ومولتها وبنتها الإدارة الأمريكية في الوصول إلى سدة الحكم أمام القوة التنظيمية للقوى الإسلامية.
3- ما واجهته العملية من عوائق ومفاجآت في الملف المصري، حيث اصطدمت المخططات الامريكية باعتراضات وتحفظات من بعض حلفاء أمريكا الإقليميين، والتي أنتجت الفوضى التي تسهدها مصر وتونس والمنطقة، فالسعودية من الخاسرين بسقوط مبارك وصعود الإخوان المسلمين. والكيان الصهيوني بقي قلقا رغم كل الضمانات السياسية التي قدمها الإسلاميون بشقيهم الاخواني والسلفي، بعدم التعرض لأمن الكيان، واحترامهم لاتفاقيات السلام الموقعة.
4- ظهور إخفاق وسوء تقدير الإدارة الأمريكية تجاه الملف السوري؛ فالتقديرات الأمريكية أن عملية سقوط النظام السوري لن تستغرق أكثر من 3- 4 أشهر، وفق ما صرح به أكثر من مسؤول عربي وتركي نقلا عن الإدارة الأمريكية.
5- ساهم اختلاف بنية وتركيبة النظام والمجتمع في سوريا عن نظرائه من النظم العربية الأخرى، ودخول اللاعبين الدوليين كروسيا والصين ومحور البر يكس، والإقليميين كإيران ومحور المقاومة، على خط اللعبة، وتصديهم بصورة مبكرة وذكية وحاسمة للمخطط الأمريكي والأطلسي في إفشال الجزء السوري والاهم من عملية "الربيع العربي".
وأدى هذا الفشل في سوريا ذات الدور المحوري في مشروع الشرق الأوسط الكبير إلى تداعيات ظهرت نتائجها في كافة أرجاء الشرق الأوسط.
ويبقى نقطة تتصل بالتقييم، وهي أن عملية "الربيع العربي" ستستمر وفق تقديرات الإدارة الأمريكية من 10 إلى 20 عاما، وهو ما يعني صعوبة إجراء تقييم نهائي لحسابات الربح والخسارة قبل انجاز كامل مراحل العملية.