لأنّ المثقف العربي واقع في غرام نظرية "المؤامرة"، انبجست التحليلات والتفسيرات المتضاربة التي تربط صعود تنظيم "داعش" وأعماله بأجندات دولية وإقليمية، فمن يتحدث عنه بوصفه "أداة إيرانية"، ومن يُجهد نفسه بوضع تحليلات وقراءات تضع التنظيم في سياق أجندة صهيو-أميركية تهدف إلى تقسيم المنطقة على أسس طائفية-دينية-عرقية.
ولا غرو عندئذٍ أن يتمسك هذا "النفر المثقف" بقصص مزوّرة مفبركة سخيفة منسوبة لوزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون تصف التنظيم بأنّه "صناعة أميركية"، أو يكرّر قصصا خيالية تتحدث عن تدريب "الخليفة البغدادي" على يدّ الموساد، فنجد مثل هذه العناوين الضخمة المضحكة تتصدر الإعلام المصري المشغول بربط كل شيء "إسلاموي" بالمؤامرة الكونية على "أمّ الدنيا"!
في المحصلة، نفض المثقفون والوعّاظ والسياسيون والتيار العام في الشارع العربي أيديهم من هذا "التيار المتوحّش" بوصفه غريبا عن البيئة العربية؛ وكأنّه ليس إنتاجا صادقا وأمينا للواقع الراهن، ومؤشّرا موضوعيّا للمدى الذي يمكن أن تصل إليه الانهيارات السياسية والأخلاقية والثقافية والمجتمعية. أو كأنّه "كائن غريب" عن مخرجات الأنظمة السلطوية الفاسدة من جهة، والسياقات الاجتماعية المتردّية من جهة ثانية، وجمود المنظومة الفقهية والفكرية والاختلالات التي تعاني منها من جهة ثالثة!
ربما هذا يقودنا إلى المسؤول الأول والرئيس عن هذا الصعود والانتشار، ويتمثّل في الأنظمة السلطوية العربية الفاسدة التي تمثّل النموذج السائد في العالم العربي اليوم. فهذه الأنظمة هي التي أنتجت وتنتج حالة "العنف البنيوي" في المجتمعات العربية، بوصفها انعكاسا مقابلا للعنف المتجذّر في سلوك هذه الأنظمة، سواء على الصعيد الرمزي أو حتى المادي.
فلو كانت هناك أنظمة ديمقراطية وعدالة اجتماعية وأنظمة تحترم التعددية الدينية والفكرية والسياسية وتعزّز ثقافة المساءلة والحاكمية الراشدة وتتأسس على قيم المواطنة وسيادة القانون، فهل كنّا فعلا سنشهد هذا البروز والصعود للحركات والجماعات المتطرفة التي تتغذّى وتنمو على ديناميكية الصراع الهويّاتي والطائفي والداخلي؟
لو كانت هذه الأنظمة تتبنى إدماج الإسلام المعتدل الوسطي، وما يحمله من خطاب إصلاحي يقبل بالديمقراطية والمواطنة والتعددية، في العملية السياسية، فهل كانت هذه التيارات ستجد الفرصة الراهنة للتمدد والانتشار والتجذّر؟
وربما هذا وذاك يقودنا إلى السلوك الدموي الذي نشاهده على صفحات الإنترنت لأبناء هذا التنظيم، وفي ذروة ذلك التوحّش تأتي مشاهد الذبح بالسكاكين كالخراف؛ فهل هذا السلوك الدموي الهمجي البربري أمر غريب أم أنّه لا يساوي شيئًا حقًّا أمام العنف الذي تمارسه الجيوش والأنظمة العربية بحق الشعوب؟ ما حجم "العنف الداعشي" مقارنة بعنف نظامي بشار الأسد أو نوري المالكي؟
ما هو عدد من قُتلوا في سجون الأسد وقضوا تحت تعذيب شديد وهائل أعواما طويلة، بلا أي كاميرا أو رقابة إنسانية؟ كم مجزرة ارتكبت بحق الأطفال والمدنيين بالأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة؟
ما الفرق الجوهري في بشاعة هذه الصورة عن مشهد القتل والإبادة والجرائم التي ارتُكبت في فض اعتصامي "رابعة" و"النهضة" في مصر؟ بماذا يختلف خطاب "داعش" أو حتى سلوكه عن سلوك الميليشيات الطائفية الشيعية، مثل عصائب أهل الحق وحزب الله العراقي، ومؤخرًا حزب الله اللبناني في كل من سورية والعراق؟
لم ينعكس هذا العنف السلطوي والفساد السياسي فقط على سلوك هذه "الجماعات الدينية"، بل حتى على المجتمعات والسلوك الاجتماعي العام، ألا تلاحظون حالة التوحش بانتشار المخدرات والعشوائيات والتحرش الجنسي والجرائم والعنف الاجتماعي والجامعي، وحتى استمراء العنف الرمزي في الإعلام والسياسة تجاه الآخرين؟!
بعض الأسئلة الداعشية؟!
(الغد)