عمون- من المحب الى الأحب
كنت أذهب الى حيث هو يجلس في بيتنا القديم ، وكان ينتابني الشعور بأنني سأظل أستظل بظل القمر حيث لا يغيب ، لكنه قد غاب القمر و مات أبي ، وتساءلت في نفسي العميقة المثقلة بالحزن ، هل تموت الجبال وهل تهب الريح ولاتقف ، وهل لماء البحر أن يجف ؟؟
كنت أنظر الى وجهه الوردي وأتساءل هل لهذا الوجه أن يذهب ولا يعود ؟ كنت أشعر بدموعه في مرضه وهي تنهال على خديه لتحفر آهات الوداع ، أنظر اليه وأتمنى أن يطول في غيبوبته ويبقى أمام أعيننا ليؤنسنا بتجاعيد جفنيه ، لنبقى صغارا لم نكبر بعد ، ها قد كبرنا كثيرا يا أبي منذ غيابك ، قد هرمنا بعد أن غمضت عيونك وتركتنا لأنفسنا لا نملك الا بكاء عليك وعلى رحيلك يا أغلى الرجال .
ها قد رحلت يا أبي بعد أن سلب المرض من قوتك وقدرتك ، وتركتنا نتلمس كل مكان كنا معك بالأمس فيه ، كل مكان ضحكنا أو أكلنا أو صلينا أو بكينا فيه ، كنت بالأمس بين أيدينا بصحتك ومرضك ، واليوم نبحث عن أية أثارة تدلنا على بسمتك البريئة وخدك الوردي الجميل ، ودموعك الغائرة فينا وشقاوة الزمان المرسومة على وجهك ، تركتنا لأنفسنا وذهبت وحيدا دوننا ، نبحث عن لحظة وداع أخيرة فيك .
من نعاتب على رحيلك يا أبي ، ودموع ضعفك من مرضك قد قتلتنا ، ونحن نبذل جهدنا كي نساعدك ، لكن سيف المرض المسلط عليك كان أقوى منا ، فسامحنا يا أبي ، لم نقدر على شيئ سوى ترقب أنفاسك التي اختلطت بحدقات عيوننا ، ، حتى أخترت فراقنا ووجدت راحتك في مكان غير مكاننا وأخذت معك منا مهجة أرواحنا ونور كبريائنا ، فلم تبقى من صورتك سوى تلك التي نخر المرض بها وجنتيك .
منذ أن فارقتنا وانتقلت روحك الطاهرة الى السماء ، وصورتك تخيم على أعيننا في كل مكان جمعنا ، أصبحنا اليوم ننبش بين بقايا أغراضك لعلنا نتلمس يديك الكريمتين ، وسريرك الذي صاحبك في مرضك لا يزال يبث فينا بقايا صور من نومك المثقل بالتعب ، سامحمنا يا أبي فقد أشغلتنا مناكفات الحياة عنك وسلبت منا أوقاتا هي أصلا لك ولقلبك الدافئ ، أما يا أبي وقد أخترت الرحيل فلا تتركنا يا أبي في ليال ظلماء دون أن تطرق باب أحلامنا في منامنا بصورتك البهية لنبقى على الوصل معك ، كن يا أبي كنجمة في السماء اذا جن علينا الليل نأنس بك .
أبي ... بعد وداعك الأخير أصبحنا اليوم نجلس في الاماكن العتيقة في منزلنا نسترق النظر الى زوايا البيت ، نلهث وراء سراب خيالك ، نظن بأنك قد تخرج الينا كما تعودنا عليك وقطرات ماء الوضوء تبلل تجاعيد وجهك المتخم في الزمان ، لله درك أيها الشامخ فقد عشت فينا بهدوء ، وبالامس رحلت عنا بهدوء ، حتى في مماتك لم تزعج أحدأ منا ، وكأن رحلتك في الحياة قصة قصيرة لم تثقل كاهل أحدنا باتمام مطالعتها .
أما وقد شهدنا أفول نجمك يا أبي ، فمني أنا المحب واليك أنت الأحب نعاهدك بأن نبقى الأوفياء لك بعد رحيلك ، ولن نترك أي شيئ يسر خاطرك ، أو يقربنا من البكاء اليك ، حتى يبقى حبل الوصل بيننا كما تعاهدنا ، ولك السلام منا على روحك الطاهرة ، التقية ، النقية ، وعزائنا أنك بين يدي ملك الملوك حيث الرحمة والأحسان ، وعساك يا أبي أن تكون اليوم راضيا مرضيا ، ولا نملك الا أن نقول ما يرضي ربنا ، اننا لله وانا اليه راجعون .
المخلص بالوفاء لعهدك
ابراهيم بن عيسى العبادي