ظهور «داعش» في العراق وسوريا على النحو الذي نشاهده، ينبغي ألا يكون مفاجئاً للسياسيين، ولا لأهل الثقافة والفكر، ولا لعلماء الاجتماع، وعلماء الدِّين على اختلاف مذاهبهم وآرائهم وتوجهاتهم، وذلك بسبب أن قوام «داعش» ورجالها هم من أبناء المجتمعات العربية، وهم شريحة من هذا الجيل، الذي نبت في البيئة العربية، ودرس في مدارسنا ونشأ وترعرع في مدننا وقرانا، ومساجدنا وشوارعنا وأسواقنا، بمعنى آخر هم نتاج ثقافة مجتمعية، نمت وازدهرت بين أظهرنا وأمام أعيننا، وإحدى ثمرات صيرورة العقل، إلى جانب حالات وظواهر أخرى كثيرة وعديدة، ومتباينة إلى حد التناقض.
لقد قرأنا جميعاً عن مهرجان لمجموعة من الشباب والشابات تحت مسمَّى مهرجان الألوان، الذي عرض نمطاً آخر من أنماط الثقافات الغريبة المستهجنة والمستوردة التي غزت بعض شرائح عمان، ولهم عالمهم الخاص، واهتماماتهم الأخرى المتطرفة على النقيض من الجهة المقابلة، وتداولت وسائل الإعلام المحلية خبراً عن مهرجان آخر يجرى الإعداد له تحت (مهرجان البيجاما) أو مهرجان لملابس النوم، كنوع من أنواع التمرد على الثقافة السائدة، والخروج من نمط الأعراف والتقاليد المسيطرة على المجتمع بحسب قولهم.
بين هاتين الظاهرتين المزدهرتين على طرفي المعادلة الاجتماعية نشاهد طيفاً واسعاً من الظواهر والحلات الأخرى التي تنبت في بيئتنا وأمام أعيننا، نتيجة أسباب كثيرة وعوامل عديدة، يجب أن تكون محلاً للدراسة والبحث والتقصي من جانب علماء الاجتماع والدَّارسين والباحثين والمختصين في الجوانب التربوية والثقافية، وكل ميادين التنشئة الاجتماعية، في مختلف مراحلها وفي جميع أشكالها ومظاهرها.
نحن نعيش على أعتاب مرحلة مختلفة، بسبب الانفتاح الواسع على وسائل الإعلام والاتصال، والتواصل الاجتماعي السهل والميسر على الشبكة العنكبوتية أو عبر الفضاء الواسع وعلى صفحات الأثير، التي تعج في اللحظة الواحدة بمئات المليارات من التغريدات والكتابات ونفثات الصدور المكبوتة من مختلف أصقاع العالم، التي تحمل معاني وإشارات لثقافات كثيرة منتشرة بين الشعوب والأمم، لكل شعب وأمَّة قيم وعادات وأعراف وطقوس ومرجعيات، لا تخضع لمنظومة واحدة ولا تحتكم لمرجعية واحدة منضبطة.
هذا الانفتاح الواسع الذي يجعلنا أمام سيل بل سيول ضخمة متدفقة تجتاح الحواجز ، وتقفز فوق الضوابط، مهما كانت قوية وصارمة، تحتاج إلى استنفار مجتمعي للبحث والمدارسة من أجل التوصل إلى الصيغة المناسبة بالتعامل معها، بحيث تكون طريقة التعامل قائمة على إدراك هذه الحقائق بعمق، وتتجاوز مسألة الرقابة الصارمة والكبت الشديد والمتابعة القريبة الضيقة وكل الأطر والوسائل التقليدية، وفي الوقت نفسه ينبغي ألا نقف موقف المستسلم العاجز الأبله، الذي يراقب الأمور بلا حول ولا قوة.
المجتمعات والدول تستشعر المسؤولية أمام صيانة بنائها الثقافي، وتستشعر المسؤولية الكبرى أمام ضرورة إعادة النظر في الإنسان وصياغة عقله ووجدانه، وضرورة الاستنفار المجتمعي لبناء حصوننا الثقافية وترميمها من الداخل، عبر زرع منظومة القيم العليا في الناشئة بطريقة سليمة وبأساليب علمية، في الروضة والمدرسة والجامعة والبيت والأسرة والعشيرة والشارع، والمعامل والمصانع والأسواق ، عبر تكاتف كل العقلاء، وأصحاب المسؤولية من المدرِّسين والعلماء والأدباء والمثقفين وأولياء الأمور، وإلّا فإننا أمام مشهد انهيارات اجتماعية وبروز ظواهر متطرفة، وتوقعات بالانزلاق نحو مزيد من العنف ومزيد من التفكك المجتمعي الخطير، الذي يزداد يوماً بعد يوم في ظل الغفلة المجتمعية التي سندفع ثمارها المرة بشكل جمعي، لا يستثني جهة أو طرفاً أو مكوناً من مكونات مجتمعنا المهدد، وما نشهده وما نبصره ونلمسه من اقتتال وتطرف في دول الجوار، تظهر ارهاصاته عبر بوادر العنف والحوار الخشن، وسوء الخلق وقلة الأدب المتفشِّية بين الأجيال.
(الدستور)