ثمة التباس وتداخلات كبيرة حول مفهوم الهوية الوطنية وعدم وضوح حدوده في العديد الاطر الزمانية والمكانية والاستحقاقات، أسئلة أكثر من الإجابات نظراً لكونها من المفاهيم المثيرة للجدل والخلاف بين المتحاورين والكتاب والفرقاء كل حسب ما يرتئي. ويستعر أوار الخلاف حولها في أزمنة الأزمة التي تضع المسلمات التي سادت لفترة ما موضع الشك. ولعل ما آلت اليه الأحوال والتغيرات في الوقت الحالي يمثل تجسيداً ملموساً لهذه الحقيقة. إذ على الرغم مِنْ أن مَنْ يتحاورون حول ماهية مفهوم الهوية الوطنية وحدودها يتفقون جميعاً على أهميتها الجوهرية في إرساء الوحدة الوطنية على أسس راسخة، إلا أنهم نادراً ما يتفقون حول ماهية هذه وأبعادها الثقافية والفكرية والسياسية على خلفية الاختلاف المذهبي والفكري.
والواقع أنه يمكن استعمال المفهوم على أنه شعار سياسي ذو بعد استراتيجي لهذا الطرف السياسي أو ذاك، أو أن يُصاغ وفق الرؤيا الأيديولوجية لهذه الجهة أو تلك. بيد أن مثل هذه الممارسات ستنتج تصورات كثيرة في عددها ومتباينة في أُسسها النظرية وفي أهدافها. وهو ما يغيب البعدين الموضوعي والمعرفي للمفهوم ويقلل من قيمته الفكرية ومن فاعليته الإجرائية على أرض الواقع فيجعل منه دافعاً نحو الفرقة والتناحر داخل المجتمع بدلاً من أن يكون حافزاً للتوحيد والتعاضد والمفاخرة في الكثير من الاحيان. ولعل من نافلة القول أن تحديد طبيعة المفاهيم الاجتماعية والسياسية العامة، ومفهوم الهوية الوطنية من أهمها، هو بحث في ماهيات مؤسسة على وجود متحقق وعيني. إن الفرد يوجد في مجتمع ما أولاً ثم يكتسب هويته أو ماهيته لاحقاً.
بمعنى أن الهوية ليست معطى مقدساً وثابتاً ونهائياً، وإنما هي معطى تاريخي في حالة صيرورة وحركة دائمين. ولذلك فهو عرضة للمراجعة والنقد والتقويم لجعله أكثر فاعلية في أداء وظائفه الأساسية في توحيد المجتمع وتحديد من ينتسبون إليه وتمييزهم عمن سواهم. فنحن نتفق تماماً مع من يقول أن "... ليس لهوية قيمة في ذاتها أو فيما تخلقه من شعور بالخصوصية، وإنما تنبع قيمتها مما يقدمه الإطار الذي تخلقه من فرص حقيقية للتقدم وتوسيع هامش المبادرة التاريخية للشعوب والجماعات التي تنطوي تحت شعارها. وهذا يعني ضرورة البحث في ماهية مقومات الهوية وصولاً إلى تحديد ما يفرضه الواقع الراهن في أي منطقة من وظائف على الهوية الوطنية أن تؤديها لكي تجعل أبناء المنطقة الواحدة يستعيدون لحمتهم الوطنية التي توشك أن تفكك عراها؛ ويستعيدون مبادرتهم التاريخية وفرص تقدمهم في المستقبل.
ولعل من المناسب بداية أن نقرر مبادئ عامة نحتكم إليها في مسعانا لتحديد مقومات الهوية الوطنية. و هي المبادئ التي يمكن حصرها بالآتي:
1- أن تكون الهوية منسجمة مع معطيات الفكر السياسي والقانوني الحديث الذي يستند إلى قاعدة المواطنة بوصفها معياراً جوهرياً ومبدأ قانونياً في تأمين المساواة في الحقوق والواجبات لجميع أبناء الشعب ممن يحملون هذه الهوية.
2- أن تكون الهوية معبرة عن الواقع الراهن للتشكيلة البنائية للمجتمع بوصفه كلاً غير قابل للتجزئة. بمعنى أنها لن تكون انعكاساً لتصور فئة ما دون غيرها. وهذا يجعلها هويةً وطنيةً بحق وليست تعبيراً عن موقف سياسي ضيق او انتماء فرعيا ضيقا.
3- أن تكون الهوية عامل توحيد وتقوية وتفعيل للحراك السياسي الاجتماعي والاقتصادي في البلاد على الأسس الواردة في المبدأين أعلاه، وأساساً راسخاً لتعزيز الكيان السياسي الموحد للدولة واستكمال للنهوض بمؤسساتها المعبرة عن وحدتها من جهة واستعادة للاطر العامة المشكلة لخصوصيتها والتقاءها بالمفردات العامة (كوحدة تشكيل عامة).
لعل مسألة تحديد مقومات الهوية من أكثر القضايا صعوبة وحساسية لأنها تنطوي بالضرورة على إغراءات أيديولوجية قد تطيح بالبعد المنهجي والموضوعي للبحث في تحديد هذه المقومات. فقد طرحت الأيديولوجية الماركسية مفهوماً أُممياً للهوية تجسد في شعار" يا عمال العالم اتحدوا" الذي يدعو إلى وحدة عمال بلاد العالم كافة على أساس طبقي. ولكنه في الوقت نفسه ينطوي ضمناً على وحدة من نوع آخر هي وحدة الرأسماليين على أساس طبقي أيضاً.
وبذلك ظهرت أولى ملامح الهوية الطبقية التي تتجاوز الحدود والمقومات القومية والدينية. لكن المفهوم الطبقي هذا كان فضفاضاً وطوباوياً. ومنذئذ بقيت مسألة الهوية وعناصرها التكوينية مطروحة للجدل والسجال الفكري والأيديولوجي. فما الهوية؟ وما العناصر أو المقومات التي يجب أن تدخل ضمن مكوناتها؟ وهل ينحصر تعريفها على الدين والقومية فحسب؟ وليس القصد من التوكيد على الآنية في السؤال الأخير الزعم بآنية الهوية المرجوة؛ وإنما هو فقط للإشارة إلى الوضع المتفاقم لأزمة الهوية القائمة في العديد من الدول العربية في هذه المرحلة بالذات. وهو وضع يتطلب، وبإلحاح، إجابة تتوافر لها عناصر تاريخية ملموسة ومقومات حقيقية على أرض الواقع فضلاً عن تطلعات مستقبلية مشروعة من جهة وممكنة من جهة أخرى. وعليه ليس من السهل الخوض في مسألة الهوية الوطنية على ضوء ما سبق ضمن زوايا حلقات ضيقة لاننا امام تداخلات ومفاهيم واسعة لا تحتتمل التعبئة المختصرة والمبطنة.