ما أروع تجانس أركان الطبيعة ،بكل جوانبها، من أجل أن تسير الأمور وفق مكنوناتها وبدهياتها، فعلى أرض الواقع ،نرى أن الأمر يتطلب إعمال المنطق ،وإلا كنا كمن يحرث في البحر ،أو كمن يرمي بذاره في رجم من الحجارة مليء بالشوك،أو ربما وهو التعبير الأنسب على بلاط مسطح .
وبالتجانس فإن الأجهزة الإليكترونية لا تعمل إلا ب"الباس وورد" ،أي كلمة السر ،فإن توفرت هذه الكلمة المكونة من حروف وأرقام ذات دلالة او مغزى ،تمكنا من فتح الجهاز ،وإلا فإن الجهاز لن يتم فتحه،وهذه هي الحياة بشكلها الطبيعي ،قبل أن نتدخل فيها ونفرض عليها قوانيننا العوجاء وشروطنا المجحفة ،وهذا ما أوصلنا إلى ما نحن فيه وعليه، إذ أننا كسرنا المنطق بشموليته وصادقنا الأعداء وحاربنا أخوتنا .
ما أود الوصول إليه هو أنه بدون المقاومة ،التي هي عبارة عن فعل مستمر على أرض الواقع،وتحكمه أمور عدة ، في مقدمتها التحالفات والتثقيف الثوري وإعادة الحسابات بين الفينة والأخرى،فإننا سنكون في مهب الإستسلام للعدو ،كما هو واقع الحال الذي نراه في غزة ،حيث المفاوضات مع الإسرائيليين في القاهرة على وقف لإطلاق النار .
قبل الغوص في التفاصيل فإن ما يجري في فلسطين بشكل عام داخليا ليس مقاومة بالمعنى المفهوم ،بل هو هبات ربما مدروسة بين زمن وزمن ،يقوم العدو على إثرها بممارسة لا إنسانيته المعهودة ،ويقتل المئات من أبناء الشعب الفلسطيني،ويجرح الآلاف ويدمر مساحات شاسعة من البيوت والبنى التحتية ،ومن ثم يطلب وقف إطلاق النار ويجد من يلبي طلبه ،ليبدأ بالإستعداد لهجمة همجية أخرى ،بعد أن يعيد النظر في الحسابات ويعمل تقييما لماجرى أرض الواقع ،ويدرس نتائج أسلحته الفتاكة الجديدة.
أما على المستوى الشمولي الفلسطيني ،فإن الأمر محير إلى درجة الذهول ،فما جرى عبارة عن إمتحان لقطاع غزة وحده ،فالضفة الفلسطينية لم تتحرك ،ليس لعجز يعتري الشعب هناك ،بل بسبب القمع الذي لم تشهد الضفة مثله في كل مراحلها ،وقد أدخلت مسيرة قلنديا الرعب في قلوب الإسرائيليين لأنهم ظنوا ،أو صدقوا ما سمعوا أن الإنتفاضة الثالثة ستنبثق من رحم قلندية ،ولا شك أن مدن وقرى ومخيمات الضفة كانت تغلي ،لكن دايتون كان بالمرصاد .
وعلى الصعيد الخارجي حيث التحالفات ،سجل هذا الملف فشلا ذريعا ،إذ أن حزب الله اللبناني المنغمس في المأساة السورية ،تمهيدا للإنقضاض عليه في مرحلة لاحقة ،لم يحرك ساكنا ،وبذلك تكون إسرائيل قد إنفردت في غزة فقط،ومع ذلك ما تزال دماؤها تنزف بطريقة أو بأخرى ،وهذا ما جعلها تشحذ وقفا لإطلاق النار.
الموقف المصري الرسمي مريب بكافة صوره ،فهو محاصر لغزة ،ووسيط غير نزيه مع إسرائيل ،وصاحب مبادرة ولا أسوأ ،ووصل الأمر به إلى التحالف مع إسرائيل ، ورفض فتح معبر رفح أمام الفلسطينيين ،معارضا بذلك أوروبا المانحة له ،الأمر الذي فاجأ إسرائيل إيجابيا ،ولا شك أنه الآن وكيل رسمي معتمد وموثوق به لإسرائيل، وهذا سر من أسرار تفوق إسرائيل وتعنتها.
هناك قضية أخرى ،وهي أن الصمت المريب ،لم يعد ماركة سيسية مسجلة ،بل أصبحت ماركة مسجلة بإسم النظام العربي الرسمي ،وليس كشفا للأسرار أو فضحا للحقائق أو تجنيا على أحد ،أن هناك من الأنظمة العربية الرسمية قد وظفت إسرائيل في مقاولة أخرى للقضاء على المقاومة ،مع أنها جربتها في مقاولات سابقة ،سجلت فيها فشلا ذريعا منذ العام 2006 في لبنان وإنتهاء بالعدوان الثاني على غزة عام 2012،وسبقه عدوان فاشل آخر عام 2008.
وبالمقابل ،فإن الشعوب العربية ما تزال تحافظ على ميزتها وهي الفزعة عند الحدث للتنفيس عن الأنظمة الرسمية ،من خلال مسيرات ومظاهرات تتخللها هتافات ما أنزل الله بها من سلطان وفي مقدمتها "بالروح بالدم نفديك يا ..."،وقد رأينا ظاهرة عجيبة في بعض الشوارع العربية وهي شراء العلم الإسرائيلي وحرقه والبصاق عليه أمام الكاميرات ،وكأن هذه الخطوة تقربنا من الوطن بوصة واحدة.
حرق العلم الإسرائيلي لا يشفي غليلا وهو ليس فعلا نضاليا أو كفاحيا ،بل هو تعبير العاجز،مع عدم التشكيك بوطنية وصدق من يقوم بذلك، فنحن كعرب وتحديدا ما تسمى دول الطوق ،ليس مطلوبا من شعوبها التظاهر وحرق العالم الإسرائيلي ،بل يتوجب على الجميع النفير العام ومن لا يستطيع القيام بذلك فليجلس في بيته ،كي لا يجد نفسه مضطرا للتنفيس عن الأنظمة التي ستقوم في نهاية الحدث بإصدار بيان عن عدد المسيرات والمظاهرات التي سمحت بها ،وتكون بذلك قد حصدت حسن نوايا الآخرين .
الشوارع العالمية هي المطلوب منها التظاهر والتعبير عن غضبها من ممارسة إسرائيل اللا إنسانية ،فهم لا يستطيعون النفير أصلا ولذلك فإن أي تحرك داعم لنا من قبلهم مقبول منهم ويشكرون عليه،ولا شك أن حركتهم مهما صغرت تكون عظيمة ،فها هم يقاطعون ويدعون إلى مقاطعة إسرائيل ،ونحن العرب نوثق العلاقات معها ونلتهم إنتاجها المطعم بالسموم والكيماوي والنووي ونفتخر أنها اصبحت صديقتنا .