الحرب التي دارت في قبلان بالقرب من نابلس بين زكريا والجيش الإسرائيلي واستمرت خمس ساعات انتهت بتفجير البيت الذي حوله زكريا إلى خندق، وكانت هذه الساعات الخمس كافية ذات هزيمة لاحتلال هضبة وضفة وقطاع وشبه صحراء، وهذه ليست الحرب الأولى التي تدور بين جيش ورجل واحد، ففي قلعة الشقيف حدث هذا باعتراف إسرائيل ذاتها، وفي وادي التفاح أيضاً قاتل جندي أردني حتى الرصاصة الأخيرة والنفس الأخير ولم يستسلم.
فهل تحققت نبوءة شاعرنا العربي القديم حين قال هناك رجل يعادل ألف رجل؟ أم أن المعادلة لها صيغة أخرى؟ بحيث يشعر جيش كامل بأنه يحارب ويقتل الأطفال ويدمر البيوت ويحرق الشجر لأسباب يجهلها؟ مقابل أفراد لديهم من الشعور بأن حربهم عادلة وأنهم يدافعون عن بلادهم.
نعرف أن الحرب الحديثة وما بعد الحديثة أيضاً لم يعد فيها مكان للفروسية أو حتى الشجاعة، ما دامت الحرب تدار بالأزرار، وبمقدور أي مسخ أن يلقي قنبلة ذرية على هيروشيما أو ناجازاكي أو على غزة!
ابن قبلان قاتل خمس ساعات بما توفر له من الذخيرة، ولو استطاع أن يحشو أصابعه مكان الرصاص لفعل، لأنه يدافع عن بيت هو له.. وعن أرض وشجر وبشر هم ذووه الذين لم يهاجروا من بولندة أو روسيا، بل كانوا وأرضهم توأمين منذ بدأ التاريخ دورته ومنذ بدأت الأرض في استدارتها!
لقد برهن العربي كفرد على جدارة قد تكون غير مسبوقة في مختلف المجالات في العلم والأدب وأخيراً في الحرب وبسالة المقاومة، لكن ما ان يدخل هذا الفرد في أي سياق حتى يصاب بالشلل ويفقد مزاياه واستثنائيته، ولا نحتاج إلى بذل الجهد لتحليل هذه الظاهرة، لأن ما أفرزته ثقافة القطعنة حتى الآن من الامتثالية، والتأقلم السلبي يكفي لاستئصال الإرادة مهما بلغت من القوة.
ولا أدري كيف يمكن لنا أن نعالج هذه الإصابة البالغة التي توارثناها بكامل حمولتها من التنابذ والتحاسد وظلم ذوي القربى؟ وكيف نخترع حاسوباً آخر يتقن الجمع أكثر من الطرح، والإضافة أكثر من الحذف؟
ما جرى في قبلان قبيل استشهاد زكريا يجزم بأن القوة للإصبع وليست للزناد، وأن الإحساس بعدالة القضية يضاعف من طاقة الدفاع، لهذا علينا أن نتخلى بعد الآن عن التعريفات الكلاسيكية للنصر والهزيمة لأن الضحية أبلغ من الجلاد، ومن الأطفال المحترقين ورمادهم سوف تولد مليون عنقاء في سماء ملبدة بالغربان!
(الدستور)