عندما سُئل الكبير محمود درويش عن سبب اختياره لحبيبتنا عمان للإقامة فيها وتفضيلها على كل المدن الأخرى التي عرفها، أجاب سائله بشاعريته المعهودة وحسه المرهف فقال "بين عمان وفلسطين قُبلة".
اختصر الراحل الحي، حقيقة العلاقة بين شقيقين عضويين لا يجب أن يسألهما احد عن سر العلاقة العضوية بينهما، ولا يجب ان يعتقد البعض ان المسافة بين عمان والقدس أوسع من قبلة بين حبيبين، توحدا معا، وعاشا ضنك الوقت معا، واختلطت دماؤهما ببعضهما البعض حتى بات دمهم واحدا، ولهجتهم واحدة، ولكنتهم واحدة، وباتت أحلامهم، وهمومهم، ومآسيهم واحدة.
في عمان كان يسمع صدى القصف النازي الفاشي لقطاع غزة، وفي عمان توحد النشيد والالم، وتوحد الهدف، فلم يضيّع الكثير من الأهل بوصلتهم وإن أضاعها سياسيون، فحافظت بوصلتهم على حساسيتها وواصلت الإشارة إلى موطن الألم، ومكان الداء، وهي اسرائيل، ولم يعرفوا موطن داء آخر سواها.
في عمان عندما تاهت عواصم أخرى كان شعبها بكل أطيافه وفئاته ومشاربه، يعرف طريقه، فلم يفتح حروبا خفية او تصفية حسابات مع مقاومين صمدوا، ولم يحد عن الهدف، وتوحد الجميع خلف مقاومة صامدة مهما كان مصدرها، وهللوا لكل صاروخ يسقط دفاعا عن النفس من دون النظر للساعد الذي حمله واليد الذي ضغطت.
هي علاقة عضوية لن يفرقها نفر قليل من اولئك محدودي الأفق، فلا غرابة عندما تبكي منازل المفرق، وأم الجمال، والرمثا والربة والقصر والمزار، ودير أبي سعيد، وسحاب، والقسطل، وعيرا ويرقا، والحسينية، وعيما، وذيبان، وصخرة، وغيرها الكثير، ما يحصل في غزة، ولا عجب أن تكون حمية الشقيق على شقيقه أكثر من حمية ابن العم وغيره، فما يصيب الشقيق سيرتد سلبا على الشقيق.
الغائب الحاضر سيد الشعراء وأجملهم محمود درويش وصف العلاقة فأبدع، كما أبدع في توصيفاته لحالات أخرى كثيرة، عبّر عنها بأجمل الكلام وأعمق الأفكار.
ما يجري في فلسطين يشعر بارتداداته أهل عجلون وجرش واربد ومعان، وبالتالي فإن حجم الأمل كان أكبر، وحد الطلب كان أوسع، وكيف لا يكون وما يجري هناك يجري في بيت شقيقنا الآخر، الذي هو ليس شقيق أحد آخر غيرنا.
أيا فلسطين من حقك المقاومة، ويا غزة من حقك الشرعي والأممي والإنساني أن تحتفظي بمقاومتك وسلاحها، وكيف لا يحق لصاحب البيت أن يطرد من يريد الاعتداء على بيته، ومن يدخل "حوش داره"، ليقتل أطفاله ويسرق ما تبقى له من حياة.
أيعقل أن نطلب من صاحب البيت والدار والأرض ترك سلاحه، ونسمح للقاتل والمعتدي والمغتصب أن يواصل قصفه وقتله، ويسرق ما يشاء ويفعل ما يشاء؟
نعم سال الدم كثيرا، ومنذ 66 عاما وأكثر ما يزال الجرح ينزف، ولكنه جرح لن يفت من عضد صاحبه ولن يفعل، فما يزال في الأرحام أطفال، وما يزال في الحارة صبيان يتحدّون المحتل، ويقهرون جبروته، وما يزال في البيت أمهات وسيدات صابرات يعرفن أن لـ"الحرية الحمراء باب بكل يد مدرجة يدق".
ظن البعض أن فتح أزمات في كل حي ومنطقة ودولة، في عالمنا العربي المنهك حاليا، من شأنه تشتيت أنظار شعوب العالم عما يحصل من قبل سارق الأرض وناهب الخيرات، وما تقوم به قوات الاحتلال الصهيوني النازي، من قصف وقتل وتدمير بحق شعب أعزل، ولكن خاب ظنهم فهم لا يعرفون أن بين عمان وفلسطين كل فلسطين قُبلة، وأن بينهما أكثر من أخوة دم، وهم لا يعرفون انه ما يزال في شعوب العالم نبض حياة يرفض القتل والتدمير، ويرفض الخضوع لمواقف ساستهم.
ترى، هل يعي البعض عندنا أن بين عمان وكل محافظاتنا الأخرى وبين فلسطين قُبلة، وربما أقرب من حد القُبلة، وهل يعون أن عليهم أن يختاروا ما يريده الشعب؟
(الغد)