يوما بعد يوم يتبين مغزى الإصرار الرسمي على الاستثمار في استراتيجية خيار السلام بما يفضي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة لحماية مستقبل الأردن من مخاطر إقحامه في دور قادم في الضفة الغربية مع انسداد الأفق السياسي وتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والأمنية وسط احتراب فلسطيني مقيت. وتزداد القناعة بان الإدارة الأمريكية, والحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية غير معنية - لاعتبارات مختلفة - بإتمام صفقة قيام الدولة الفلسطينية قبل أفول ولاية الرئيس الأمريكي جورج بوش بداية العام .2009
ويشعر غالبية المسؤولين هنا بالخذلان من الدور الأمريكي-الإسرائيلي المحبط الذي بات يعطي الأولوية لفرض المصالح الاستراتيجية الضيقة على حساب مصالح حلفاء واشنطن العرب التقليديين واستقرار الإقليم. لكنهم يفضلون ترك هذه الخواطر خلف الأبواب المغلقة حسب ما تقتضي الأعراف الدبلوماسية وأسس العمل السياسي.
وهم يقرون بأنه لم يبق أمام الأردن الرسمي إلا تكتيك قائم على استمرار حشد التفاؤل تجاه استمرار المفاوضات والمحافظة على ما تبقى من إجماع عربي. ف"الغريق يتعلق بقشة", وخصوصا إذا كان يسبح وسط صراع محموم في العلاقات بين أمريكا وإيران وسعي كل منهما لتوظيف شبكات التحالف مع أطراف عربية وقوى محلية وفاعلين إقليميين لكسر إرادة الآخر في ساحات العراق, لبنان وفلسطين دون الالتفات لمصالح العرب.
خلاصة الحال, بحسب ما يقول أحد المسؤولين في مقابلة مع "العرب اليوم" إن الأردن لن يتوقف عن الحراك الدبلوماسي السياسي وطرق جميع الأبواب الا عندما تقام دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة, وسيستمر بدعم السلطة الوطنية بقيادة محمود عباس".
فالبديل هو الجمود وتطويع سياسة الأمر الواقع وممارسة الانتحار السياسي الذي لا يريده الأردنيون ولا الفلسطينيون.
لذا, يحاول بعض المسؤولين استثمار ربع الساعة الأخير من الزمن المتبقي لإنجاز "معاهدة سلام شاملة" على الورق أواخر عام 2008 بما فيها الاتفاق على أسس حل ملفات حساسة تتعلق بقضايا الوضع النهائي, على أن تطبق بعد شهور من استلام الإدارة الجديدة مهام عملها.
بالمقابل تدفع إسرائيل, بعكس الفكرة الأردنية, باتجاه إنجاز إطار اتفاق سلام لشراء الوقت ودفع الإدارة الأمريكية الجديدة لإعادة اختراع عجلة المفاوضات.
الأهم أن حال المسؤولين بات كحال رجل الشارع المتشائم. يقرون بأنهم يضحكون على أنفسهم وعلى الناس بمسرحية "وهم السلام" في عالم جديد بقيادة قطب أحادي فقد الرؤيا وقوة التأثير مع بدء تقسيم الإقليم إلى مناطق نفوذ.
لكن أساليب التعاطي مع الخطاب الرسمي مختلفة بين مسؤول وآخر. فمنهم من يفضل الصمت. ومنهم من يريد التركيز على نقاط صغيرة مضيئة هنا وهناك مثل انعقاد اللجنة الثلاثية الأمريكية - الإسرائيلية - الفلسطينية في اجتماعها الأول الجمعة برئاسة الجنرال وليام فريزر. الأخير انتقد إسرائيل على مواصلة الاستيطان وعدم تخفيف الحواجز العسكرية في الضفة الغربية ضمن لقاء لتقويم مدى التزام الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي ب¯ "خارطة الطريق".
في نفس الوقت جدد الاتحاد الأوروبي تأكيده أن "بناء المستوطنات في أي مكان من الأراضي المحتلة بما في ذلك القدس الشرقية, غير مشروع. "
هناك رهان على أن تقرير الجنرال فريزر الذي سينشر مطلع الأسبوع المقبل سيحمل انتقادات لإسرائيل ممكن أن تتسبب بإحراجها في أوروبا وأمريكا.
لكن في نهاية المطاف, غاب وزير الدفاع الاسرائيلي عن اجتماع الجمعة ما اعتبر مؤشرا آخر على تنصل إسرائيل من الاستحقاقات المترتبة عليها وفق "خريطة الطريق" ورفعت من درجة الشكوك في شأن مفاوضات السلام. ومرة أخرى وازنت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس بين إسرائيل والفلسطينيين وحملت الطرفين مسؤولية مماثلة.
من النقاط المضيئة الأخرى أن بعض الملايين الموعودة التي أقرها مؤتمر المانحين في فرنسا نهاية العام الماضي وصلت إلى حكومة سلام فياض في الضفة الغربية لمساعدته على تنفيذ إصلاحات اقتصادية واجتماعية وأمنية.
لكن الأفق السياسي الأوسع لا يحمل الكثير من الايجابيات في مرحلة تتغير طبيعة العلاقات والاتصالات بين لاعبين أساسيين من داخل وخارج المنطقة لخدمة أهداف متوسطة وطويلة الأمد أو للتخفيف من هواجس آنية.
الجميع, عربا, إيرانيين وأمريكيين يتراقصون على أنغام المناوأة والتحدي عوضا عن صياغة البدائل. ينصبون الكمائن ويستدرجون الآخرين لتمضية الوقت قبل أن تتوضح حدود الشرق الأوسط الجديد.
محور الاعتدال العربي, الذي نشأ بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان بين السعودية والأردن والإمارات ومصر, اندثر قبل أن يحقق هدفه الأول; الاتفاق على استراتيجية للتعامل مع أمريكا وإيران بطريقة تحمي مصالحه وصولا إلى إقليم آمن مستقر.
اتفاق مكة بين فتح وحماس برعاية السعودية العام الماضي كان بداية انفراط عقد الحلف. واليوم تبدو الاختلافات واضحة حيال التعامل مع ملف الاستحقاق الرئاسي في لبنان.
بعد ست سنوات من القطيعة وتبادل الشتائم رمّمت العلاقات بين قطر والسعودية بينما تتقاطر وفود رسمية من دول خليجية نفطية على أبواب طهران للتوصل إلى تفاهمات مشتركة اقتصادية, سياسية وأمنية لحماية مصالحها. قطر قد تكون مفتاح سحب السعودية خلف إيران.
وتدور محادثات بين إسرائيل وحماس في غزّة حول هدنة طويلة الأمد مقابل وقف استهداف قادة حماس والجهاد, ويصر الطرفان على نفيها.
رئيس الحكومة الفلسطينية المقالة إسماعيل هنية يتعهد بدعم جهود الوساطة المصرية للتهدئة بين "حماس وإسرائيل", والتي باتت الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي متحمسين لها بعد فشل الرهان على إدارة الظهر لحماس وعزلها.
إمكانية التوصل إلى اتفاق تهدئة عالية على حساب التوصل إلى سلام شامل ودائم. فإسرائيل وحماس متفقتان على هدف مشترك; الالتفاف على عملية السلام لأن كليهما غير جاهز. والجميع راض عن القيام بأدوار تتناقض مع مواقفهم المعلنة.
ويثبت يوم بعد يوم أن إيران وأمريكا يصنعان التطرف في الشرق الأوسط وان الشريك العلني الخفي الأول هو إسرائيل, وأن الصفقة الكبرى التي يخشاها الجميع قادمة وأن قوى الاعتدال باتت اليوم الخاسر الأكبر.
الدول العربية في سباق مع الزمن لترتيب أوضاعها في الشرق الأوسط الجديد بعد انهيار العراق وتهميش نفوذ مصر والسعودية الإقليمي, بينما تصول وتجول إيران في المنطقة وتتحكم بملفات لبنان والعراق وفلسطين, عبر الحليف السورية والوكلاء المحليين "حكومة نوري المالكي في العراق, حركة حماس الفلسطينية وحزب الله اللبناني".
يزداد نفوذ سورية لدرجة استعدادها لأن تضحي بالإجماع العربي مقابل نفوذها في لبنان وتفادي المحكمة الدولية. ويخشى ان تدق قمة دمشق أواخر الشهر المسمار الأخير في نعش النظام العربي.
في هذه الأثناء يصول ويجول الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في شوارع بغداد لأول مرة بحماية قوات الاحتلال الأمريكي ويعقد اتفاقيات استراتيجية لضمانة مستقبل مشترك على انقاض بلد عربي مستباح. المفارقة أن هذه القوات لا تستطيع توفير الحماية لكبار مسؤولي واشنطن إذ يتسللون للعراق في عتمة الليل مثل "علي بابا والأربعين حرامي".
وتفشل جهود الأردن لإعادة سورية إلى الحضن العربي عبر ترطيب الأجواء بينها وبين السعودية ومصر. وتبدأ التسريبات الإعلامية في صحف عربية موالية للسعودية بالحديث عن أن الأردن اقترح على واشنطن والرياض والقاهرة إعطاء ضمانات للنظام السوري تحمي المقربين من الرئيس بشار الأسد من اتهامات قد توجه إليهم في المحكمة الدولية مقابل أن تسهل سورية انتخاب رئيس للبنان, تضغط على حزب الله وحماس من أجل تسوية في لبنان وتهدئة الأمور في فلسطين.
الأردن الرسمي لا يرد على هذه المزاعم التي تفنّدها عدة حقائق منها أن واشنطن غير مرتاحة للتقارب السوري الأردني الأخير وأن سورية والسعودية ومصر لن تقبل أبدا إعطاء الأردن شرف الوساطة.
والأهم أن الأردن الذي يؤيد الشرعية الدولية وينادي بضرورة الالتزام بها ليل نهار لا يستطيع التدخل في ملف المحكمة الدولية التي خرجت عن أي مقايضات وصفقات أو أن يسجل على نفسه سابقة الانقلاب على القانون الدولي. كما ان الأردن لا يقبل بأن تحطم إيران لبنان وتسحب البساط من تحت السنة لصالح النفوذ الشيعي السياسي, لأن في ذلك مقدمة لتجارب مماثلة في دول أخرى مثل السعودية, الكويت والبحرين.
رغم الاختلافات السياسية الحادة تجاه الملفات الإقليمية بين المملكة وسورية, ستستمر عمان في إعطاء الأولوية لتعزيز العلاقات الثنائية.
الشيء الوحيد الذي يريح أصحاب القرار, ولو مرحليا, هو ضآلة احتمال تجدد المواجهات بين حزب الله وإسرائيل في الجنوب اللبناني أو لجوء أمريكا للخيار العسكري لضرب برنامج إيران النووي هذا العام. فإسرائيل لا تريد رأس النظام السوري ومرتاحة لوجود الرئيس بشار الأسد رغم الإشكالات التي تقع هنا وهناك.
في المحصلة, للجميع حق التمايل مع الرقصة التي يريد على إيقاع موسيقي غير متسق بانتظار قدوم إدارة أمريكية جديدة تقرر كيفية التعامل مع ملف إيران الإقليمي من خلال تحجيمها أو تقاسم الأدوار.
العرب اليوم.