بعد ثلاثة عقود من العمل في سلك التعليم، قررت إحالة نفسها على التقاعد، لشعورها بأن ما آلت إليه أحوال التعليم لا تسرّ صديقاً ولا تغيظ عدواً؛ ولإيمانها المطلق بأن إصلاح الحال بات من المحال.
تتذكر كيف كانت أحوال المدارس والتدريس مختلفة في ثمانينيات القرن الماضي، حتى في المناطق النائية، ثم كيف اختل مستوى التعليم وانحدر إلى ما بلغه اليوم من تراجع في القيمة والمضمون والمخرجات.
بدأت مسيرتها معلمة لمادتي الرياضيات والعلوم. وبعد سنوات من الخبرة والتنقل من مدرسة إلى أخرى في القرى والمدن، انتقلت إلى الجانب الإداري، وعملت في السنوات العشر الأخيرة من مسيرتها المهنية مديرة لإحدى المدارس الثانوية.
تتكلم بحسرة، مع آه طويلة بين الجملة والأخرى، وتقول: أين كنا؟ والى أين وصلنا؟
بالتفصيل، تتحدث المربية الفاضلة عن كيف تغير كل شيء؛ بدءا من المعلم، مرورا بالإدارات، وليس انتهاء بالتلاميذ والمناهج، وفي خضم كل ذلك التخطيط لتطوير القطاع.. عفوا تقصد تدميره.
تحتار من أين تبدأ، وكيف تشرح إجابتها عن سؤال: ما الذي أوصل التعليم إلى هذا الانحدار؟
تستهل الحديث بما أصاب الجيل الجديد من الطلبة، والذي لم يعد يحترم معلمه ويتطاول عليه. وتقول بعد أخذ نفس طويل: صار الأستاذ أو المعلمة يتوقعون كل شيء من الطلبة إلا الاحترام، وفوق ذلك الإهمال واللامبالاة.
مباشرة تُحمّل مسلكيات الطلبة لأسرهم، والتي أدت إلى تجاوز الحدود. فتلكؤ الأهالي في محاسبة أبنائهم على الأخطاء وضبط سلوكياتهم، جعلهم يستخفون بالمدرس والمدرسة. وتحكي المربية الخمسينية كثيرا من القصص التي مرت بها على مدى سنوات، والتي تكشف كيف لعب الأهالي دورا كبيرا في كسر احترام المهنة والقائمين عليها.
بعد العائلة، تلوم الإدارات التي تساهلت مع الطلبة، كما ضعفت رقابتها أيضا على أداء المعلم الذي أصابه هو الآخر عطب لناحية إخلاصه في أداء مهمته، وسعيه لتعليم الطلبة لا تلقينهم.
تقارن التربوية العتيقة بين معلمي أيام زمان ومعلمي اليوم، وتقول: ليس الطالب وحده من اختلف؛ فأصحاب الرسالة فقدوا الإيمان بها. وتقول: كان وقت الدرس مشقة ومحاولة جادة لإفهام الطلبة بإخلاص وضمير، إذ كان الشعور بالمسؤولية تجاه الطلبة مسيطرا على المعلم، أيا كان المنهاج. أما اليوم، فصرنا نرى المعلمة تدّرس من دون أن تكلف نفسها عناء الشرح والتوضيح، وربما تكتفي بالقراءة الذاتية.
ولا تستثني المناهج المعتمدة على التلقين، كعامل أساسي في ضعف قدرات التفكير والإبداع لدى الطلبة، وقتل إمكاناتهم وعدم تطويرها. لكنها تضيف: لم تكن المناهج قبل ثلاثة عقود أفضل مما هي عليه اليوم، لكن الحال كانت أحسن، والنتائج أيضا.
بالنتيجة، وبسبب إهمال جميع الأطراف؛ معلمين وإدارات ومديريات، نجد لدينا 342 مدرسة لم ينجح فيها أحد!
تعلق التربوية على القصة بالقول: صحيح أن الحالة العامة سيئة، والمؤشرات تدل على حالة تهتّك تصيب النظام التعليمي، وعدد المدارس التي لم ينجح فيها أحد أقوى دليل على ذلك؛ الأمر الذي يحتاج إلى ثورة في التعليم لإصلاح الاختلالات ومحاولة تقويمها لإعادة الهيبة والقيمة لقطاع التعليم.
وتشرح أن المسؤولية لا تتوقف على طرف دون آخر؛ فالحل متعدد النواحي، لكن الأساس يرتبط باستعادة هيبة المعلم في عيون المجتمع. وأيضا، على المعلمين استعادة ضميرهم والإيمان برسالتهم والتخلي عن اللامبالاة؛ إذ كيف يعقل أن يطلب أستاذ من تلميذه سيجارة مثلا؟! وكيف لمعلمة معاقبة تلميذة تتجاوز كل الحدود، فيما تعلم أن أسرة الطالبة ستلومها وتكيل لها التهم باستهداف ابنتهم؟
بعد كل هذا الخراب، تقول المربية الفاضلة، قررت أن أغادر، قبل أن أصاب بأمراض الضغط والسكري، ومن دون نتيجة أيضا!
ترى، كم بقي لدينا من مثل هذه المربية؟
(الغد)