الجزيرة" صنعت دولة و"ATV" شوهت أخرى .. تصفية بدم بارد
04-08-2014 03:54 PM
كنت قبل سنتين أحاضر عن الإعلام العربي في جامعة "سنترال ميتشجان" الأمريكية بدعوة من الصديق الصحفي والأستاذ المعروف البروفيسور جون هارتمان، وكان الجمهور خليطا زاد على ثلاثة آلاف، ضم عربا وأمريكيين وأوروبيين، كتابا ومفكرين وفنانين، وكنت ذكرت أن الإعلام والصحافة العربية قطعا شوطا بعيدا أنسانا مقص الرقيب، وعجرفة رئيس التحرير، ورهبة (الطيارات) التي طالما صُفعت بها الأقفية في الأقبية.
واستشهدت على ما أقول بـ"المستقبل" و"الجديد"، و"الجزيرة" و"العربية" و"القدس العربي" ... ومؤسسات إعلامية كثيرة شبت عن الطوق، وخلعت نير الاسترقاق ..
الغريب أنني أثناء كلامي كنت أسمع همهمة من هنا، وتمتمة من هناك .. لم ألتفت، ومضيت في حديثي إلى أن فجر هدوء المدرج ضحكة أصابتني بالدهشة والخرس .. الدهشة من سوء الأدب وقلة الذوق، والخرس من هول المفاجأة أمام هذا الحشد من النخبة وصفوة مثقفي المجتمع الأمريكي.
تقدم البروفيسور هارتمان من المنصة، وأشار إلى صاحب الضحكة بالاقتراب، فإذا هو شاب غض العود، يرتدي الجينز، وتتدلى من رقبته سلسلة تذكرك بكلب ساندي سميث في فيلمها الشهير "بجعات فلورنسا".
تقدم الفتى ثابت الخطوة، ساخر العينين، معتذرا عما وقع، مبررا فعلته بأن كل الذي سمعه مخالف لحقائق وأبجديات يعلمها أكثر طلاب دفعته، ما دفعه إلى الضحك بهذا الشكل السخيف.
أشرت إليه أن قد قبلت اعتذارك، وأتممت ما بدأت به، وفتحت المجال لمناقشة ما طرح في المحاضرة، فكان الخبيث أول السائلين.
أتدرون عما سألني أمام ثلاثة آلاف من قادة الرأي، ومشكلي وجدان الشعب الأمريكي؟ قال بلسان طلق معرفا بنفسه: "فلان، طالب صحافة وتلفزيون، وأود أن أناقشك في الفكرة الرئيسية عن ارتفاع غير مسبوق لمستوى الحريات في بلاد العرب، وسأذكر لك مثالا واحدا أظن أنه سيدفعك إلى إعادة التفكير في ما طرحته اليوم، وهو قناة "ATV" الأردنية، ذات الإمكانيات الهائلة، ما يجعلها ورقة رابحة في آلة الإعلام العربي، لكن ما حدث بعد ذلك من قتل للقناة بيد باردة دون أن يرف جفن أو يتحرك ساكن صانع القرار في الأردن، فهذا ما أذهلنا .. أذهلنا هذا البرود واللامبالاة في التعامل مع منحة دولية وأحلام شعب وآمال أمة .. وكن متأكدا أن هذا لو حصل في بلدي فستسقط الحكومة في أقل من خمس ساعات، فعن أي مقص رقيب وأي حريات وأي إعلام تتحدث؟".
في الحقيقة ألجمني هذا المنطق، وأخرسني هذا الخبيث للمرة الثانية في أقل من ساعة، لأنني بكل صراحة لم أكن في ذلك الوقت قد سمعت بـ""ATV في حين أنها كانت حديث طلاب الصحافة والتلفزيون في الولايات المتحدة كما فهمت! فأجبته إن صح ما تفضلت به فهذا لا يعني أن الحريات في كل بلاد العرب مقموعة، بل هذا نموذج وحيد وعزف منفرد يستحق أن يفرد بحلقة بحث .. تناقشنا قليلا، ثم تعللت بموعد واعتذرت من الحضور .. وخرجت.
وبعد سنة ونصف، التقيت جون هارتمان أثناء تقديم ورقة عمل حول صناعة الخبر نظمتها مؤسسة "تروث" بالتعاون مع "راند" في روما، وكان أول سؤال ألقاه علي وهو يضحك هل أحرجك ذلك الشاب؟ قلت بل أحرجتني "ATV"، فسألني إن كنت تابعت الموضوع، فقلت له متابعات خفيفة لا تسمن ولا تغني من جوع.
الشهر قبل الماضي التقيت الصحفي الأمريكي بيتر هال في لوبي فندق فينيسيا في بيروت، وقد صعقني حين قال مازحا: الحكومة الأمريكية مدينة باعتذار لك .. فنظرت إليه متسائلا؟ فقال: لأنها مولت مشروع ""ATV الذي سبب لك حرجا كبيرا في مدرج "سنترال ميتشجان".
تركت هال وذهبت أبحث وأقرأ وأسأل عن الـ""ATV، فعرفت كثيرا وتألمت كثيرا، عرفت عن الـ 92 نائبا الذين طالبوا حكومة بلادهم بحل مشكلة القناة، وعرفت عن أكبر جدارية في الأردن، وعرفت عن أكثر من ثمان حكومات وثلاثة مجالس نيابية عجزت عن إغلاق الملف، وعرفت عن وعود كاذبة خدرت الشعب منذ 2006، وعرفت عن ملايين اهترأت وتعفنت، وملايين تسربت إلى حسابات سرية.
وعرفت عن تعاقب ثلاثة ملاك للمحطة كلهم موضع اشتباه، وعرفت عن شركة العجائب، والزعبي، والعوران، وعصفور، وعليان.
وعرفت عن عمال وفنيين وصحفيين رموا إلى الشارع، ولم تعبأ بهم دولة، ولم ينصفهم قضاء.
لكنني لم أعرف لماذا لم يسقط الشعب حكومته؟ كما قال ذلك الخبيث.
ولماذا لم يصرخ ويتوجع لما تبددت أحلامه وآماله وأمواله؟
كلنا يعرف فضائية "الجزيرة" القطرية، هذه القناة التي صنعت دولة لم تكن تذكر إلا في دروس الجغرافيا، ودروس التاريخ الحديث حين يذكر تقسيم الاستعمار لإمارات الجزيرة العربية، هذه القناة أقضت مضاجع الكثير من ساسة الغرب وزعامات العرب، وجعلت من قطر ـ أمام الجمهور ـ لاعبا محوريا في المنطقة، يخطب الزعماء الرؤساء والأمراء ودها، لأنهم يعلمون أنه إذا غضبت عليك قطر (الجزيرة) حسبت الناس كلهم غضابا.
في حين أن الأموال انهالت على بلد ينتسب إلى الديمقراطية، لإخراج قناة تلفزيونية ذات مستوى رفيع، تقدمه إلى المجتمع المحلي والعربي والدولي بشكل لائق، فأبى إلا أن يدفن هذا المشروع ويدفن معه آمال أمة وأحلام شعب وجهود مبدعين.
الشعب شاء، وفئة قليلة مأزومة رفضت، فمضت مشية الرافضين.
سعيد شرارة