العذَّاب الأمريكي يُميت مِنْ غير أنْ يميت
هشام غانم
13-03-2008 02:00 AM
نقضُ جورج بوش قرارَ الكونغرس الذي يمنع وكالة الاستخبارات المركزيّة مِنَ استخدام أساليب التعذيب في الاستجواب، ولا سيّما أسلوب "الإيهام بالغرق"؛ النقض هذا، ما كان ليكون لولا وجود بند متحيّز للرئيس في الدستور الأمريكيّ. والبند هذا، يبيح لرئيس الولايات المتحدة استعمالَ حقّ النقض (الفيتو) ضدّ أي قرار لا يحوز أغلبيّة الثلثيْن في المجلسيْن.ولمّا كان الديمقراطيّون يتمتّعون بأغلبيّة ثمانية عشر مقعداً في مجلس النوّاب المؤلف من 435 مقعداً، وبأغلبيّة مقعدين اثنين في مجلس الشيوخ المؤلف من مائة مقعد؛ كان يسيراً على بوش اتخاذ قراره، مثلما كان عسيراً على الديمقراطيّين إبطال القرار. وهذا ما جعله يسرف في استعمال الفيتو، فهو استعمله تسع مرّات، ثمانية منها في العشرة شهور الأخيرة. وعلى هذا، ليس تعسّفاً القول إنّ النظام الأمريكيّ يوصل إلى الحكم رئيساً بصلاحيّات دكتاتور.
والدكتاتور، وهو جورج بوش في هذا المعرض، لم يخجل مِنَ الإعلان على رؤوس الأشهاد وعلى الملأ الدوليّ، عن تأييده أبشعَ الأفعال وأشدّها وحشيّةً، أي الإيهام بالغرق، على ما سيأتي البيان.
والحقّ أنّ الفعل هذا ليس مِنْ إبداع بوش أو وكالة استخباراته المركزيّة؛ فجذوره تضرب عميقاً في التاريخ. فهو ربّما بدأ في إبّان حقبة محاكم التفتيش بإسبانيا وإيطاليا. وفي الحقبة الكولونياليّة استعمله المستعمرون الهولنديّون ضدّ سكّان إندونيسيا. واستعملته الولايات المتحدة ضدّ الفلبينيّين غداة نهاية حربها مع الإسبان، وبعدها استعملته في فيتنام كذلك. وفي الحرب الثانية مارس اليابانيّون والنازيّون هذا الفعل. واستعمله الفرنسيّون ضدّ الثوار الجزائريّين. وفي تشيلي مورس الإيهام بالغرق ضدّ أكثر مِنْ خمسة وثلاثين ألف ضحيّة. وبدورهم استعمل الخمير الحمر هذا الأسلوب بين عاميّ 1975 و 1979 بكمبوديا.
ولكنّ الجدل حول هذا الأمر لم يظهر إلى العلن إلّا عام 1968؛ يومها نشرت الواشنطن بوست على صفحتها الأولى صورة لجنود أمريكيّين "يستجوبون" جنديّاً فيتناميّاً شماليّاً. ولم يلبث الجدل أنْ عاد غداة هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر). فأظهرت المعلومات أنّ السي آي إيه مارست الإيهام بالغرق ضدّ العقل المدبّر لهجمات أيلول، خالد شيخ محمد، وزميليه زين العابدين محمد حسين (أبو زبيدة)، وعبد الرحيم الناشري.
وليس التعذيبُ مِنْ طريق "الإيهام بالغرق" صدفةً جاءت عفو الخاطر أو الطبع؛ فللماء رمزيّةٌ كبيرة في الثقافتين المسيحيّة واليهوديّة. فمن قصّة الخلق وطوفان نوح فضربِ موسى البحرَ بعصاه وإغراق فرعون وملئه ومشي المسيح على الماء إلى "صاحب الحوت" (النبي يونس)؛ ينتصب الماء عَلَماً على القوّة والسطوة والطغيان.
وتحصي المراجع التاريخيّة أضراباً مختلفة مِنَ "الإيهام بالغرق". فالإسبان، في حقبة محاكم التفتيش، كانوا يقلبون جسم الضحيّة رأساً على عقب، فيعلّقونه مِنْ قدميه بحبل مربوط إلى السقف، والحبل هذا يمكن شدّه وإرخاؤه ، ويُرخَى الحبلُ ويُشَدّ مرّات متتالية، ويوضع تحت رأس الضحيّة وعاء ماء؛ فإذا غطس رأس الضحيّة في الماء شهق شهقات متتالية ومتسارعة، حينئذٍ يُشَدّ الحبل إلى أعلى، فيأخذ جسمُ الضحيّة بالارتعاش واللهاث نتيجة التدمير الذي يصيب رئتيه، لتعاد الكَرّة مرّةً أخرى ويغطس الرأس في الماء. وكلّ ذلك لجعل الضحيّة "يتكلّم" (والكلمة الأخيرة قالها أحد ضبّاط السي آي إيه مِنْ غير أنْ يرفّ له جفن). فإذا "تكلّم"، كان ذلك قرينةً على نجاعة هذا الصنيع المميت، مِنْ وجه، وعلى علوّ كعب "العذَّاب" مِنْ وجه آخر. ولفظة "العذَّاب"، في صيغة مبالغة ليس فيها أي مبالغة، شاع استخدامها في الأدب السياسيّ العربيّ القديم، ولا سيّما ما جاء في إخبار أبي جعفر الطبري عن أحوال السلف الصالح، مِنْ أمثال الحجّاج بن يوسف الثقفيّ.
والنوع الثاني مِنَ الإيهام بالغرق استعمله الهولنديّون ضدّ الإندونيسيّين. فكان العذَّاب يشدّ وثاق الضحيّة ويمدّه على الأرض، ليصبّ الماء في فمه مباشرة، بواسطة أنبوب ماء يدخل في فم الضحيّة عنوةً وعلى رغمه. ويتسبّب هذا الإجراء بتهتّك الرئتين وتمزّق أغشية الأنف. والنوع الثالث، وقد يكون أكثرها شيوعاً، هو تغطية وجه الضحيّة بقطعة قماش، ليبدأ العذَّاب بعد ذلك صبّ الماء وجه الضحيّة. وهناك نوع ثالث يُعتقَد أنّ عذَّابي السي آي إيه استعملوه ضدّ خالد شيخ محمد؛ فيوضع الضحيّة في حوض خشبيّ يشبه الكفن، حقيقةً ومجازاً، والحوض هذا يميل وينحدر مِنْ أحد طرفيه، ويمدّد الضحيّة على ظهره بعد أنْ يكون العذَّابون قد شدّوا وثاقه، ويُجعَل رأسه في الجهة المائلة مِنَ الحوض (الكفن)، وهي الجهة التي يتجمّع الماء فيها، ليبدأ العذَاب بعد ذلك صبّ الماء في الجهة المائلة. ويترتّب على هذا الأمر تلفٌ يصيب الدماغ نتيجة نقص الأكسجين.
ولا يقتصر الأمر على الضرر الجسديّ، بل يسري إلى النفس والحسّ. فيروي أحد الأطباء الذين أشرفوا على علاج بعض مَنْ تعرّضّوا إلى الإيهام بالغرق، أنّ الأشخاص الذين تقع عليهم هذه الجريمة يكابدون الألم والجراح النفسيّة سنوات طويلة. وأحد هؤلاء لم يكن يستّحم بسبب ذلك، وحين أمطرت السماء أُصيب بنوبات مِنَ الهيستيريا.
وعلى هذا، قد يجوز القول إنّ "الإيهام بالغرق" هو ضربٌ مِنَ الموت. وللزعم هذا ما يسوّغه مِنْ غير تكلّف كبير؛ فإذا صحّ أنّ الحياة ليست سوى شعور البشر بالحياة، وجب أنْ يكون الموت ليس إلّا الشعور بالموت، ووجب كذلك أنْ يكون "الشعور بالغرق" ليس إلّا الغرق. ولكنّ الإيهام بالغرق لا يُميت، فكيف يستوي ضرباً مِنَ الموت؟ ليس ضرورةً أنْ يكون الموت مُميتاً! فأحياناً "يأتيه الموتُ مِنْ كلّ مكان وما هو بميّت"، (إبراهيم / 17). فالموت قد "يأتي" مِنْ غير أنْ "يلاقي"، وهو ربّما "يجيء" لكنْ مِنْ غير أنْ "يُذاق".
ولتسويغ قران "الإيهام بالغرق" بالموت، ينبغي – ربّما – العودة إلى ابن جنّي في "خصائصه"؛ فهو قال بحمل الألفاظ على معانيها، وردّ المعاني إلى أصوات الكائنات التي تحيط بنا، مِنْ غير أنْ يعني ذلك نقضاً على تعليم الخالق آدمَ الأسماء كلّها؛ ولا سيّما أنّ العربيّة هي أتمّ اللغات وأكثرها وقوعَ أسماء مختلفة على المسمّيات كلّها. فحين حمل ابن جنّي كلمة "قول" على معناها، زعم أنّ الفم واللسان يخِفّان له (أي لـ"القول") ويقلقان ويمذَلان به، وهو بضدّ السكوت الذي هو داعية إلى السكون. فلمّا كان الابتداء أخْذاً في القول، لم يكن الحرف المبدوء به إلّا متحرّكاً، ولمّا كان الانتهاء أخْذاً في السكوت، لم يكن الحرف الموقوف عليه إلا ساكناً.
وعلى هذا، أمكن حمل فعل الغرق على معناه، فالمصدر (غَرَق) يبدأ بحرف الغين الآتي مِنْ فوق الحلق، حيث نزع الروح الذي يبتدئ بالأنين والاستغاثة فالحشرجة، فإذا خرج الروح، كان ذلك مِنْ أقصى اللسان حيث حرف القاف. وأمّا الراء المتحرّكة بين الغين والقاف فتقوم مقام السكرة، وللموت سكرات، حيث يصدر الخوار والغرغرة، وهذه كلّها، وغيرها مثلها، قرائن على أنّ الإيهام بالغرق هو ضربٌ مِنَ الموت.
وها العالم، يستمع هانئاً وسعيداً، لعذَّاب واشنطن وهو يُصْدر أحكاماً، تارةً بموت لا يُميت، وأطواراً بموت يُميت.
hisham@3c.com.sa