حتى بعض المحترمين من الإعلاميين المصريين لم يتخلصوا من الغل والكيد لحماس رغم الصراع الشرس الذى تخوضه الآن فى غزة. وهم فى ذلك أبدوا استعدادا مدهشا لتبنى المزاعم الإسرائيلية وترديدها. وبدا واضحا أن آذانهم أكثر استعدادا للتجاوب مع نتنياهو منها لاستقبال ما يقوله المتحدثون باسم الحركة فى غزة. كنت قد أشرت إلى ذلك فى مقام سابق، إلا أن ما حدث خلال الأسبوع الأخير سلط مزيدا من الضوء على تلك المفارقة المحزنة. وتلك قصة تستحق أن تروى.
ما دعانى للعودة إلى الموضوع أن القناة الألمانية الثانية «ذى. دى. إف» بثت يوم الاثنين الماضى 21/7 حلقة فى برنامج «المجلة الدولية» ــ أوسلاندر جورنال ــ كان موضوعها قصة المستوطنين الإسرائيليين الثلاثة الذين اختطفوا وقتلوا فى شهر يونيو الماضى. أعد الحلقة صحفى محقق اسمه كريستيان سيجرس. ولأجل ذلك سافر الرجل إلى إسرائيل وتتبع خيوط الحدث وملابساته، وعاد من هناك بتقرير موثق أثبت فيه أن الجريمة لم تكن سياسية. وقد أقدم عليها أحد الأشخاص لأسباب مادية بحتة. ولكن جهاز الأمن الداخلى شين بيت ما أن علم بأمرها من جهاز الشرطة حتى تحفظ على كل ما له علاقة بالقصة. وكان من بين تلك المتعلقات تسجيل لاتصال هاتفى أجراه أحد الشبان المختطفين مع الشرطة، وهو لم يسجل المكالمة فحسب، ولكنه سجل أيضا صوت اطلاق الرصاص من جانب المختطف على ضحاياه.
ذكر التقرير أن جهاز الشين بيت فرض حظرا تاما على المعلومات الخاصة بالموضوع. ومنع الشرطة من الإدلاء بأى تصريحات بخصوصه. ثم سلم الملف كله إلى الجيش بهدف استثمار الحدث فى ضرب التوافق الفلسطينى الذى تم بين فتح وحماس، من خلال خطط كانت معدة سابقا وتنتظر الأمر بالتنفيذ. كانت الخلاصة التى خرج بها الصحفى الألمانى الذى حقق فى الأمر. عبارة عن اتهام واضح للحكومة الإسرائيلية بالتلاعب بالأدلة والتآمر على المدنيين الفلسطينيين.
يوم الجمعة الماضى 25/7 نشرت الخبر صحيفة «التحرير» المصرية قائلة إن قناة زد. دى. اف الألمانية كشفت عن أن قتل المستوطنين الثلاثة كان جريمة مدنية قام بها رجل إسرائيلى بدافع أطماع مادية بحتة، لافتة إلى أن الرجل قتل الشبان الثلاثة بعد يوم من اختطافهم وحرق السيارة التى وجدت جثتهم بداخلها... إلخ.
ما حدث بعد ذلك معروف. ذلك أنه رغم أن الحادث وقع فى الضفة الغربية الخاضعة للسلطة الوطنية وليس حماس، ورغم أن إسرائيل لم تقدم أى دليل يؤكد حقيقة الفاعلين، إلا أن رئيس الوزراء الإسرائيلى سارع إلى اتهام حركة حماس بالضلوع فى العملية وأعلن حربه عليها التى تطورت إلى المحرقة التى نشاهدها الآن. الآلة العلامية فى مصر التى شيطنت حماس رحبت بكلام نتنياهو، الذى برر به حربه على غزة، وظلت تردد أنها هى التى أشعلت الحريق واستفزت الإسرائيليين الذين «اضطروا» إلى الرد حتى وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه. لم استغرب ذلك من بعض شرائح الشباب الذين انضموا إلى مواكب الصائحين والمهللين، الذين باتوا يكرهون حماس بأكثر مما يكرهون الإسرائيليين، حتى صارت إبادتها عندهم «القضية المركزية» وليس استعادة فلسطين وتحريرها. لم أنزعج مما يقوله هؤلاء بقدر ما شعرت بالرثاء لهم، لكن ما أزعجنى هو انخراط بعض المحترمين والمخضرمين فى العملية. فقد قرأت لأحدهم يوم الخميس 24/7 أن حماس «شاركت فى خطف وقتل 3 مراهقين إسرائيليين، ثم بدأت بإطلاق صواريخها باتجاه المدن الإسرائيلية». (لاحظ أنه وهو الباحث الاستراتيجى ــ قلب الصورة واعتبر حماس هى المعتدية التى وجهت صواريخها نحو المدنيين فى إسرائىل!)، كما أنه اعتبر بسالة المقاومة فى غزة «مقاومة عشوائية». يوم أمس 26/7 قرأت تعليقا لصحفى مخضرم آخر دعا فيه إلى إصدار قرار من مجلس الأمن يحمل حماس وإسرائيل بالمسئولية المشتركة عن عملية الإبادة فى القطاع وقبل ذلك كان صاحبنا قد ذكر أن حماس قامت بمغامرات خاسرة آخرها خطف المستوطنين الثلاثة وقتلهم (نسب ذلك إلى أبومازن). مضيفا أنها تمسكت بإطلاق الصواريخ على المدنيين الإسرائيليين (هى المعتدية أيضا) وجاء تعليقه حافلا بالمغالطات، التى منها أن عناصر حماس فى سعيهم لإفشال الوحدة الوطنية قاموا باعتداء وحشى على وزير الصحة الفلسطينى الذى جاء من رام الله ليتابع أوضاع الجرحى. ولم يكن صاحبنا يعلم أن حماس هى التى رشحت ذلك الوزير، الدكتور جواد عواد للاشتراك فى الوزارة. وأن أهل غزة هاجموه معبرين عن غضبهم على السلطة لأنه جاء إلى القطاع بعد 11 يوما من المحرقة الإسرائيلية، وقد حماه من الغاضبين وكيل وزارة الصحة الحمساوى فى غزة الدكتور يوسف أبوالريش، الذى انتقد سلوك الغاضبين ورد للوزير اعتباره. من تلك الأغاليط أيضا أن ثمة اتفاقا بين إسرائيل وحماس (صدق أو لا تصدق) لفصل القطاع وإقامة دولة فلسطينية تحكمها حماس بشروط إسرائيلية أمريكية تم الاتفاق عليها مع جماعة الإخوان إبان حكمهم لمصر. مثل هذا الكلام الذى يختلط فيه البغض بالهلاوس والتخاريف حين يصدر عن الصحفيين المحترمين فإنه لا يصيبنا بالدهشة فحسب. ولكنه يملؤنا بالتشاؤم والخوف من المستقبل، خصوصا أنه يصدر وغزة تتحول إلى بركة من الدماء ولم ير فيها هؤلاء سوى مراراتهم حساباتهم الخاصة.
الشروق