ليس الخوف من أنفاق غزة هو الذي يدفع إسرائيل إلى ارتكاب هذه الجرائم والمجازر ضد سكان القطاع المحاصر. من الصعب تصور أن الدولة الأكثر تسلّحاً في منطقة الشرق الأوسط، والتي تفاخر بأن جيشها هو بين أقوى جيوش العالم، لا تجد سبيلاً لمواجهة ما تسميه خطر حركة «حماس» سوى بتدمير بيوت غزة فوق رؤوس أهلها.
أنفاق غزة ليست سوى رسالة وصلت إلى القادة الإسرائيليين لتبلغهم كم أن الأرض الفلسطينية التي يستوطنونها هشّة تحت أقدامهم، وكم أن وجودهم على هذه الأرض غير طبيعي، لأنه احتلال. ومثل كل احتلال على مر التاريخ، فهو معرض للزوال عندما تتغير عناصر الحماية التي لا تزال توفر له أسباب البقاء.
ولأن هذه الرسالة وصلت بكل وضوحها، لم يعد أمام القادة الإسرائيليين، مدنيين وعسكريين، سوى الالتفاف بعضهم حول بعض، على رغم الخلافات السياسية القائمة بينهم، لأن الخطر الذي يستشعرونه هو خطر وجودي، ولهذا وجدنا درجة التوحّش والهمجية التي يمارس بها الجيش الإسرائيلي حملته في غزة، من دون أي اعتبار لأي قيم أو مشاعر إنسانية، ولا لقوانين الحروب من أي نوع.
المستشفيات والمدارس والمساجد والأطفال الذين يلهون في الشوارع أو على شاطئ البحر... كلها أهداف مباحة عند جيش إسرائيل، التي لا يخجل سفيرها في واشنطن من أن يطالب بجائزة نوبل للسلام لهذا الجيش، في الوقت الذي يتهمه المسؤولون في منظمة غوث اللاجئين (الأونروا) بارتكاب انتهاكات خطيرة للقانون الدولي، بينما يعلن الناطق باسم الأمم المتحدة أن على العالم أن يشعر بالعار حيال ما ترتكبه إسرائيل في غزة، على مرأى ومسمع من شعوب الأرض.
هذا الخوف والقلق على الوجود ينحدر بالإسرائيليين إلى مستوى غير مسبوق من الانحطاط في القيم والأخلاق، ما يجعلهم يفاخرون بفرحهم لأعداد القتلى من الفلسطينيين التي تجاوزت الـ1300. أقام الإسرائيليون ما أطلقوا عليها «سينما سيديروت» على تلة مرتفعة تطل على قطاع غزة، أخذوا ينقلون إليها مقاعدهم وفرش نومهم ووسائل التسلية والترفيه، وكأنهم ذاهبون إلى نزهة، ثم يجلسون هناك، يتفرجون ويصفقون لقذائف وصواريخ جيشهم تتساقط فوق رؤوس أهل غزة.
إلى جانب الالتفاف الإسرائيلي شبه الكامل حول جرائم جيشهم في غزة، يصدم التأييد الذي يكاد يكون مطلقاً من قبل يهود العالم لهذه المجازر. أصوات قليلة وخافتة استنكرت وانتقدت، لكن الأكثرية الساحقة أيدت أو صمتت، من دون أي اعتبار للأثر الذي تتركه الجرائم التي ترتكبها الدولة التي تسمي نفسها «يهودية»، على سمعتهم وعلى علاقاتهم بالمجتمعات والأديان الأخرى التي يقيمون بينها. لقد وضع اليهود أنفسهم، كما وضعت إسرائيل نفسها، في موقع الإدانة الدولية، ما يقصّر من عمر العطف والحماية اللذين حظيت بهما إسرائيل من أصدقائها وحلفائها.
لم يعد أمام إسرائيل سوى القتل، قتل الفلسطينيين، لتضمن بقاءها الآمن. هذه هي الخلاصة الوحيدة التي يمكن استخلاصها من الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في غزة. فوجئ الإسرائيليون بأن نظرية غولدا مائير عن أن الشعب الفلسطيني غير موجود كانت نظرية مخالفة للواقع.
اكتشفوا أن هناك شعباً لا يزال موجوداً وان هذا الشعب يطالب بأرضه، ويفتح كتاب التاريخ الذي تسعى إسرائيل إلى إقفال صفحاته، ثم يتصفّح فصول تلك الجريمة التي لا نظير لها في التاريخ، والتي ارتكبتها العصابات التي مهدت لقيام إسرائيل في عام 1948.
بهذا المعنى أعادت حرب غزة المأساة الفلسطينية إلى فصولها الأولى، فصول المجازر والتهجير القسري واستيراد «مواطنين» من كل أصقاع الأرض ليستوطنوا مكان سكان البلاد الأصليين.
هكذا صار الشاب الأسترالي والبريطاني والليتواني والفرنسي... جندياً في «جيش الدفاع الإسرائيلي» لا مهمة له سوى قتل أبناء الأرض الأصليين، لأن الأرض لا تتسع لشعبين، بحسب النظرية الصهيونية التي مهدت لقيام الدولة اليهودية.
(الحياة اللندنية)