عندما فازت ألمانيا في كأس العالم الأسبوع الماضي ، فاضت شوارعنا بالمحتفلين؛ زوامير على تصفير، على العاب نارية، على تعريض سيارات في الشوارع، يرافقها بعض الصياح الذي يرتقي أحياناً الى مرتبة «التجعير»، ولم يتردد البعض وهو يخرج نصفه العاري من سقف السيارة من هتاف : «خاوة..خاوة...ألمانيا خاوة»..
هل يا ترى فازت ألمانيا بالكأس «خاوة» حسب العقلية العربية ؟؟..كنت أتمنى أن يكتب لنا أحد علماء الاجتماع..مقالاً تحليلياً عن تركيبة الإنسان الألماني التي تقوده دائماً للتفرد بكل المجالات بما فيها الرياضة علّه يستوعبها البعض الذي لا يمتلك في ذهنيته مفردة سوى «الخاوة والطبّة»...
من وجهة نظري ، الملعب «شقفة» من الحياة ، لذا لم أكن أتابع المباريات من زاوية رياضية وحسب ، تنتهي بالظفر أو الخسارة بقدر ما كنت أتابع أسلوب حياة وسلوكاً اجتماعياً لكل أمه او شعب على حده..في الملعب تظهر الشعوب المنظمة من الشعوب الفوضوية ، الشعوب التي تعتني بالوقت والشعوب التي تتفنن في إضاعته الشعوب الواثقة من الشعوب المترددة...الخ.
ألمانيا كانت حالة خاصة بين الفرق المشاركة، كنت انظر الى طريقة اللعب وأقول بيني وبين نفسي :»أسلوب حياة»..عندما كان يتعرّض المرمى الألماني الى هجوم ويستخلص الدفاع الكرة من الخصم لم يكن يشتتها «كيف ما أجت تيجي»..كان يمررها بهدوء من بين خصمين الى زميله القريب وزميله القريب الى زميله التالي دون ارتباك أو خوف أنها: (الثقة بالنفس)..في حالة الهجوم أو الدفاع كانوا حريصين جدا الا تخرج الكرة من المعلب كي لا تضيع ثواني قليلة دون استغلال أنها : (إدارة الوقت)...حتى لو النتيجة لصالحهم والوقت يشارف على الانتهاء لم يفتروا بإكمال المهمة نحو مرمى الخصم انها: (الجدية والاصرار) ، في حالات قليلة جداً كانت تقصر او تطول الكرة الممررة من اللاعب الألماني الى زميله الآخر انها: (الدقة) ..كل لاعب كان مسؤولاً عن مساحة ما ولاعب ما في الملعب لم نرَ مدافعاً أخذته الحمية وفجأة كان في رأس الهجوم او العكس إنها: (الاختصاص وإدراك المهمة)..في حال شعورهم ان دفاع الخصم متماسك ويصعب اختراقه كانوا يعيدون بناء الهجمة من الصفر بطريقة مختلفة.. (بناء بطيء وصحيح خير من بناء سريع وفاشل).. كما لم يمارس لاعبوهم التمثيل على الحكام وإيهامهم بالسقوط والعرقلة كما تفعل باقي الفرق: ( الخداع لا يجلب نجاحاً)..بالمقابل لم يهتموا كثيراُ بعرقلة الخصم ليظفروا بالكرة او يقطعوا هجمة: (سقوط الآخر لا يعني نجاحنا)...ميزة أخرى، الألمان لا يكتفون بالوصول الى مرحلة الانتصار بل يبحثون دائماً عن «كيف يكون الانتصار»..ففوزهم على منتخب بأربعة أهداف لا يعني ان يتوقفوا عن التسجيل بل يصرون حتى آخر ثانية لتسجيل المزيد ، انها ثقافة (التاريخ ينتظرنا)..من المدهش ايضاَ لسلوكهم ، عند اصابة لاعب اصابة بالغة فإن هذا لا تعني توقف عطائه - كما حدث في المباراة النهائية- حيث كان احد اللاعبين الألمان ينزف دماً من وجهه..واستمرّ باللعب حتى صافرة الحكم انها : (التضحية)...من أحرز الهدف الأثمن وأحرز لبلاده كأس العالم شاب لم يكن اسماً كبيراً بين النجوم ، على العكس بل أنه فتى صغير من أصول كرديه أسمه «اوزيل» أدخل بلاده التاريخ للمرة الرابعة والعشرين انها: (العدالة )... أخيراً أكثر ما لفت انتباهي أنه عند خروج اللاعب في تبديل أو عند انتهاء مباراة كان المدرّب يخرج من مظلة الاحتياط ويكون أول من يستقبله ويقبّله ويشجّعه قبل ان يجلس مع زملائه الآخرين انها:( أهمية الإنسان)..
الانتصار قد يحدث مرة صدفة..او مرة بواسطة «رضا الوالدين» هذا صحيح! ..لكن من يريد ان يحقق انتصاراً في كل مرة.. فالأمر بحاجة الى صناعة تقوم على خطوط الإنتاج المذكورة أعلاه..
وغطيني يا «أنجيلا ميركل».
(الرأي)