كلما ذُكر اسم حيّ «الشجاعية» في غزة في بلاغات الـ»تَّنْزيح» الإسرائيلية، تذكرت معين بسيسو (أبو توفيق) ، رحمه الله، الذي تغنى ببطولات الشعب الفلسطيني في قصائد خالدة أحداها بالاشتراك مع رفيق دربه الطويل في الشعر والأدب والنضال محمود درويش خلال حصار بيروت في عام 1982 والعديد منها في دواوين شعره التي أولها ديوان :»المعركة» في عام 1952 ومن بينها :»الأشجار تموت واقفة» 1964 و»الآن خذي جسدي كيساً من رمل».
ولعل ما يمكن اعتباره تمادياً للزمان بجوره أن معين الذي سبق برحيله رفيق دربه بسنوات عديدة قد توفي في أحد فنادق لندن المطلة على حدائق قصر «بكنغهام» بعد معركة مع الصحف والمجلات التي وجدت على الطاولة التي اتكأ عليها رأسه الإتكاءة الخيرة وذلك بينما كان رحيل محمود درويش في ديار الغربة أيضاً في الولايات المتحدة التي نُقِلَ إلى أحد مستشفياتها بعد اشتداد أوجاع قلبه التي بدأت بعد هزيمة حزيران المنكرة بقصيدته الشهيرة الدامعة التي قال فيها:
خسِرْتُ حلماً جميلاً خسرت لسع الزنابق
وكان ليلي طويـلاً على سياج الحدائـق
يامَّا مويل الهـوى يامَّا مويلـيا
ضرب الخناجر ولا حكم النَّذل بيَّا
* * *
كان معين بسيسو ، ورغم أنه صاحب دواوين الشعر هذه كلها، يردد دائماً وأبداً بيت شعر عمر أبو ريشه القائل:
تقضي الرجولة أن نمدَّ جسومنا
جسراً فقل لرفاقـنا أن يعبـرو
كان انضمام معين بسيسو إلى الحزب الشيوعي مثله مثل محمود درويش ومثل سميح القاسم مبكراً وقد قاده هذا الإنضمام إلى سجن الواحات الرهيب في مصر وفي عهد جمال عبد الناصر الذي ورغم ذلك أحبه وبقي يحبه.. ولعل أقسى ما رواه إبن «الشجاعية» وإبن غزة عن هذا السجن أنَّ أحد نزلائه كان يعاني من «دمَّلةٍ» في وسط رأسه الحليق وأنه كان عندما ينتقل مشياً إلى «مطْبخ» ذلك المعتقل الصحراوي يتعرض لغارات «الحدءات» الجائعة المتوحشة التي كانت تتزاحم على الوصول إلى «دّمَّلته» لتتناوب على نقرها بمناقير قاسية وحادة.
كانت تربط معين بسيسو علاقة صداقة سياسية متينة بالأديب المصري الشهير عبد الرحمن الخميسي ، رحم الله الإثنين، على اعتبار أنهما رفاق في العقيدة الحزبية وأنهما كانا من نزلاء سجن الواحات المرعب هذا لفترة طويلة.. ولعل ما هو أكثر إمتاعاً في هذه العلاقة أنَّ «أبو توفيق» كان يتفنن في إعداد «المقالب» لصديقه وبخاصة عندما كان يزوره بعد انتقاله للإقامة في موسكو وحيث حصل على جائزة «لينين» التي وفَّرت له شقة مريحة في ضاحية جميلة ووفرت له أيضاً بالإضافة إلى السيارة «السويديَّة» الصغيرة أفضلية الحجز في أيِّ مطعم من مطاعم هذه المدينة الجميلة.
خلال حصار عام 1982 كان عبد الرحمن الخميسي في بيروت وكان بنصيحة محمود درويش قد أقام في شقة في العمارة نفسها التي يقيم فيها «إبن البرْوة» والتي كانت تواجه البحر مباشرة إلى الجنوب من صخرة «الروشة».. وحيث كانت الطرادات والزوارق الإسرائيلية ترابط على مدار الساعة وتشارك في قصف غربي العاصمة اللبنانية باستمرار.. وفي ذات مساءٍ حلَّ فيه الظلام مبكراً أبلغ معين بسيسو بعض الوحدات العسكرية المرابطة في منطقة الرملة البيضاء بالقرب من فندق الـ»بوريفاج» الشهير والمعروف في لبنان.. بأن هناك شقة مشبوهة في إحدى العمارات المطلة على البحر ترسل إشارات ضوئية إلى السفن المعادية.. وانه قد يكون هناك جاسوسٌ يقيم في هذه الشقة.
تحركت مفرزة مسلحة وبسرعة بعد أن أرشدها معين إلى العمارة وحدد لها رقم الشقة وفي أي طابق تقع.. وهناك كانت مأساة عبد الرحمن الخميسي الذي من سوء طالعه أنه تفوه ببعض المفردات الروسية عندما سمع صخباً أمام شقته وعندما ردَّ على الطَّرق المرعب على باب هذه الشقة.. لقد اقتحم المهاجمون الشقة واقتادوا «الجاسوس» اللعين بعد أن أشبعوه صفعاً وركلاً وهو بملابس النوم إلى فندق «البوريفاج» ،الذي كانت قد إستخدمته حتى المخابرات السورية في فترة متأخرة مقراً لأحد فروعها بعد استخدامه من قبل الأجهزة الأمنية التابعة للمقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، وكانت مفاجأة هذا المسكين ان «أبو توفيق» ومعه بعض الأصدقاء كان في انتظاره.. حيث بدأ الصخب والصراخ وبدأت الشتائم وحيث تحول هذا «المقلب» إلى حفلة عرمرمية استمرت إلى ما بعد بزوغ الشمس بساعات.
(الرأي)