لأنهم لم يستطيعوا إغراق غزة في البحر كما تمنى ذلك الجنرال الذي تسلل اليه الدود وهو حي، حاولوا إغراقها في الدم، لكنها الآن تطفو على دمها مثلما طفت على بحرها، وهي كريمة إلى حدّ الاعتذار لمن أفسدت الشاشات عليهم الاستغراق في متابعة المونديال!
وكريمة إلى حد الاعتذار لتوأمها الذي اضطر من باب الخجل لان يصحو من الندم ويرد على الهاتف الذي يقطر رنينه دماً، ويخبره بأن أخاه يذبح بسكين أعمى.
غزة الأدرى بغزاتها لأنها جربتهم وكسرت سيوفهم وحولت التابوت الى مهد، وخريف العرب الى فصل خامس لا تزهر فيه غير اشجار الكبرياء!
هي التي تعتذر لنا عن افساد ليالينا المثقلة بالتخمة والكوابيس والنميمة.
أما نحن ففي واد آخر، هو الارجح غير ذي زرع او حتى ضرع.
ورغم الغنى الفاحش للغتنا في المترادفات إلا أن مفردات كالعقوق والنذالة والخذلان وقلب ظهر المجن وبتر ثدي الأم تبقى قاصرة عن توصيف ما يعصف في آذاننا من صمت، تجاوز التواطؤ الى المشاركة، وألغى المسافة بين العدو والشقيق.
إنّ غزة ليست (غزية) التي قال شاعرها انه يتبعها في الغواية والرشد وليست قطعة من الجغرافيا قذفها الزلزال من نيوزيلندة الى الشاطىء الشرقي للبحر المتوسط في كل شيء إلا في العنف والدم.
فيا غزة هل نشك في أمنا ونصدق أنك لست الشقيقة البكر؟
لا... لن نفعل ذلك لأن الزنا التاريخي كان بعيدا عن الأم وألف ألف حاشا..
ما الحكاية اذن وما هو اللغز، هل تسربت حبوب منع التحول والغضب والعصيان الى دوراتنا الدموية من خلال شاي مهرب وقهوة مخلوطة بمسحوق اللامبالاة!
أنت تدفنين أبناءك وبناتك وشقيقاتك وآباءك وأمهاتك ونحن نحصي.. لأننا لا نتقن غير مهنة الاحصاء، سواء تعلقت بالربح من تجارة النخاسة او بعدد شهدائك.
ما من اعتذار إليك وإلى كل طفل تشتبك أصابعه النحيلة بأصابع أمه المرتعشة هلعاً عليه إلا بالقفز إليك.
لأنك الآن جديرة بأن يخلع الجسد من أجلك، وتبقى الروح شفيفة ونظيفة تقدم إليك الاعتذار، ظلام لياليك أشد إضاءة من كل هذه الكهرباء لأنها نهار كاذب، كم أنت كثيرة لأنك وحدك، وكم نحن قليلون لأننا أرقام استمارات وجداول وفواتير!
(الدستور)