رمضان مدرسة المجتمع العامة التي يدخلها جميع المكلَّفين من أجل استكمال عملية البناء النفسي، التي تعد الغاية الأسمى للعبادات كلها على الجملة، فكلها تشترك بهدف «تزكية النفس»، التي سوَّاها الخالق الكريم وهو يعلم ما يصلحها ويزكيها ويعلم أسباب ارتكاسها وتدسيتها من خلال الاستغراق بالمعاصي والشهوات التي تنحط بالإنسان إلى المستوى الحيواني الهابط.
قال تعالى: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا «
فقد خلق الله النفس في أحسن تقويم، تملك الاستعداد للتزكية والتهذيب والسمو، وفي الوقت ذاته تمتلك الاستعداد لاكتساب سوء الطباع وأخس الأخلاق، وقد قال تعالى في ذلك « لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ «.
لقد خلق الله ثلاثة اصناف من الكائنات الحية، الصنف الأول هم الملائكة الذين جبلوا على الطاعة، وتم تطهيرهم من كل أنواع الشهوة، «لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ»، والصنف الثاني هم البهائم التي جبلت على الشهوة، وتجردت من العقل وهمة التزكية والسمو الأخلاقي، والصنف الثالث هم الآدميون المكلَّفون وهم مزيج من الروح والشهوة، و العقل والعاطفة، ومزيج من الاستعداد للخير و الشر.
الإنسان يعيش حياته كلها بالمجاهدة بين التجاذبات، ولا انفكاك له عن سلوك المجاهدة التي تنجيه من شبح الهبوط إلى دركات الإنحطاط الحيواني، فقد قال تعالى «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ».
وطريق الإنسان في الحياة الطويلة أن يكون قادراً على تمثل القيم النبيلة والأخلاق العالية، من الصبر والشجاعة والمسامحة والكرم والجود والعطاء وحسن التعامل وحب الخير للناس.
ويستعين على المجاهدة عن طريق الصلاة والتعبد، وطريق الصيام والكف عن الشهوات، وتعلم حفظ النفس والتحكم بها عن الجوع والغضب والتوتر، والقدرة على اختيار السلوكات الحسنة.
وعن طريق الزكاة التي تعود النفس على الإنفاق وتقديم المساعدة، وإعطاء المال، والصدقات، بحب وطواعية ورغبة حقيقية تشعره بمتعة الإنفاق على الفقراء والمساكين، ومجاهدة الشح والبخل والتقتير المتجذر في النفس الإنسانية.
ينبغي أن تستثمر في رمضان بطريقة ناجحة من خلال التوقف على درجات الصوم الثلاث: الدرجة الأولى: صوم العامة المتمثل بالإمساك عن الطعام والشراب وسائر الشهوات الجسدية، والدرجة الثانية: صوم الخاصة، المتمثل بإمساك الجوارح عن الآثام، وامتناع اللسان عن الغيبة والنميمة والطعن بالأعراض وعن السباب والشتائم وقبيح الألفاظ، وعن الثرثرة واللغو، وامتناع اليد عن البطش والايذاء، وامتناع الأرجل عن السير في المعصية. والدرجة الثالثة: صوم خصوص الخصوص والمتمثلة بتعلق الهمة بمعالي الأمور، والتطلع إلى محاسن الغايات وكريم الأفعال، وأفضل مراتب العبادات التي تتمثل بتقديم الخدمة للناس وإدخال السعادة على نفوس الأشقياء، والتي تتمثل بحسن التعامل مع الناس بالابتسامة وبشاشة الوجه، ونصرة المظلوم. وإحقاق الحق وإقامة العدل، والتخفيف من وقع المصيبة على المصابين، وإفساح الطريق ومنع الأذى فقد جاء في الأثر : «أن يسير أحدكم في حاجة أخيه خير من عبادة ستين عاماً في مسجدي هذا».
فالصيام بناء للنفس، وبناء للمجتمع، وإتمام البناء الإنساني العام الذي يصبح المجتمع كله كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعت له سائر الأعضاء بالحمى والسهر.
(الدستور)