رمضان .. تصحيح مفاهيم (4) تحرير الإرادة
بلال حسن التل
09-07-2014 02:14 PM
استعرضنا في المقال السابق بعض التحولات الكبرى التي شهدها المسلمون على أرضهم خلال شهر رمضان عبر تاريخهم الطويل، منذ فرض صيام شهر رمضان، ورأينا كيف ارتبطت هذه التحولات سلبًا أو إيجابًا بواقع المسلمين الحضاري صعودًا أو هبوطًا، وهو الأمر الذي يؤكد العلاقة الطردية بين البناء المعنوي للأمة وبنائها المادي، مصداقًا لقوله تعالى:»إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم». وتغيير النفس لتكون أهلاً للفعل الحضاري القادر على صنع التحولات الكبرى في تاريخ البشرية أحد أهم أهداف صيام رمضان، الذي يحرر النفس البشرية من أسر شهواتها، وأولها وأقلها شهوة البطن من الطعام والشراب، كجزء من عملية تغيير النفس الإنسانية وتحريرها مما اعتادت عليه، ومن ثم تدريبها على تحمل الجوع والعطش، ومقاومة تأثيرهما إغلاقًا لواحد من أهم أبواب الضعف والاستسلام البشري، فلطالما استخدم الجوع سلاحًا لتركيع الضعفاء من الناس أفرادًا وجماعات، من هنا تأتي حكمة التدريب على تحمل الجوع والعطش من خلال شهر رمضان، الذي قضت حكمة الله ان يدور مع دوران الفصول، ليتدرب المسلم على الجوع في حر الصيف القائظ، وفي برد الشتاء القارس وما بينهما، وهذا جزء من بناء القوة الروحية للإنسان لينتصر على شهواته، فلا يكون عبدًا لها ولا تكون منفذًا لاستعباده وإذلاله، وهذا هو المدخل الحقيقي لتحرير إرادة الإنسان التي هي أساس حريته في كل خياراته، عبر مراحل حياته المختلفة ومواقفه في الحياة.
ومثل تحرير النفس البشرية وتحرير إرادتها أمام شهوة الطعام والشراب، فإن في رمضان تحريرًا للإنسان من سيطرة المال وسلطانه، من خلال حث المسلم على الصدقة، نافلة عن الزكاة، التي هي حق معلوم للسائل والمحروم، وتحرير الإنسان من سلطان المال عنصر مفصلي من عناصر تحرير إرادته. فطالما كان المال وسيلة لسلب إرادة الإنسان ومن ثم لسقوطه الأخلاقي، خاصة على الصعيد الوطني.
ومثلما يدرب صيام رمضان الصائم على التحرر من شهوة البطن، وسلطان المال، فإن في صيام رمضان تحريرًا للنفس من شهوة الفرج، التي طالما كانت هي الأخرى مدخلاً لكسر إرادة الإنسان، وانحلال الشعوب ثم هزيمتها.. من هنا كان الصوم مدرسة لتدريب الفرد والجماعة على مقاومة هذه الشهوة، لإغلاق منفذٍ آخر من منافذ سلب الإرادة، ومدخل من مداخل الاستعباد، وفتح باب من أبواب الحرية ليس في رمضان، بل في كل أيام السنة عندما تقضي الضرورة. لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطيع فعليه بالصوم فانه له وِجاء». وعند غض البصر نتوقف لنستجلي بُعدًا آخر من أبعاد رمضان ودوره في تغيير النفس البشرية وتحرير إرادتها وتهيئتها لتكون قادرة على إحداث التحولات الكبرى في واقعها، وهذا البُعد يتجلى بما يجب ان يرافق امتناع المسلم عن الطعام والشراب من شروط اكتمال الصيام.. وبعضها ما لخصه الحديث القدسي الذي قال:»إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب» والرفث هو ما دق وصغر من التصرفات السيئة، سواء كان في علاقة الرجل بالمرأة، أو في علاقته بمحيطه، جاء في لسان العرب «الرفات الحطام من كل شيء» وذهب مفسرون إلى ان الرفث يبدأ من الامتناع عن الكلمة الصغيرة التي قد تفتح باب الشهوة بين الرجل والمرأة، ويمتد ليشمل كل الأفعال السيئة التي يجب ان يمتنع عنها المسلم خاصة في رمضان، ومن نافلة القول إذن ان يمتنع المسلم، عن الصخب والسُباب، وهذا يعني تحرير الإنسان من شهوة اللسان وزلاتّه، وهذا هدف أساس من أهداف صيام رمضان؛ فما بال أقوام منا يزداد خُلقهم سوءًا في رمضان، بدعوى تأثير الصيام عليهم، وما شرع الصيام إلا لتهذيب النفس البشرية وتحريرها من عاداتها السيئة، ومن الاستسلام لهذه العادات وهو ما فهمه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولخصه جابر بن عبد الله الأنصاري بقوله:»إذا صمت ليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم وأذى الجار، ليكون يوم صومك عليك سكينة ووقارًا، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء» وهذا القول للأنصاري هو شرح وتفسير لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:»من لم يدع قول الزور والعمل به فليس له حاجة في ان يدع طعامه وشرابه» وهذا الحديث النبوي وقبله الحديث القدسي يبينان لنا ان شهر رمضان ليس مجرد شهر للامتناع عن الطعام والشراب، ولكنه مدرسة لتجديد أخلاق المسلم وتدريبه على الخُلق الحسن–لسانًا وبصرًا وسمعًا وفعلاً–من خلال تحرير إرادته أمام شهوات اللسان والبصر والسمع. فأين نحن من فهم السلف الصالح لمعاني الصيام وقد حولنا أيام رمضان ولياليه إلى أيام صخب وليالي لهو، ابعد ما تكون عن السكينة والوقار؟ تضج أسماعنا بالبذيء من كلمات الأغاني الهابطة، وتجرح عيوننا بالفاضح من الدعايات والإعلانات التي تدفع الناس إلى الاستسلام لعبودية الشهوات، التي شرع صيام رمضان لتحرير الإنسان منها. قبل ان تتولى وسائل الإعلام تحريف مفاهيم رمضان، وحرف الصائمين عن معاني الصيام ومغازيه الكثيرة، في أبشع علمية تزوير وتحريف للمفاهيم السامية. وأولها أننا حولنا رمضان من شهر تحرير الإرادة أمام كل الشهوات إلى شهر الاستسلام لكل الشهوات. وأولها شهوة البطن التي يشكل الصوم عنها أخف درجات صيام رمضان. والدليل هو في هذا الحجم الهائل من الإعلانات والبرامج عن الطعام والشراب التي تدفعنا للاستسلام لعبودية شهوة البطن، بدلاً من التحرر منها كهدف رئيس من أهداف رمضان، شهر التدريب على تحرير الإرادة والتأسيس لها قبل ان يظلنا زمن تحريف المفاهيم. "الراي"
Bilal.tall@yahoo.com