في احدى اكثر مقولاتنا تداولا نبرر لمن اعتاد الكذب من احبتنا بالقول"الكذب ملح الرجال" واظن اننا نرتكب خطيئة بحق الملح ونبرر لبعضنا سلوكا مشينا باضفاء صفة الملح على فعل لا يشبه الملح بحال
فالملح عنصر واضح شغل الانسان واستحق ان يبحث عنه ..ويعمل على استخراجه..ونقله ...والتداول فيه ...فقد كان الملح هاما ليس في اكساب الطعام مذاقا اطيب واظهار نكهاته التي قد تختفي في الاطعمة غير المملحة...بل استخدم الملح كاول حافظ للطعام مما ساعد الانسان على الاستقرار وتحسين امنه الغذائي.
في كل بقاع الدنيا كانت الصخور والمياه المالحة مصادر اساسية لهذا العنصر الهام الذي دخل في حياة البشرية صدفة فاصبح لا يستغنى عنه. اما في ثقافتنا العربية يكتسب الملح قيمة اضافية غير التي تعطيها الثقافات الاخرى له....فنقول لمن ندعوهم لبيوتنا ( احنا بدنا اياكم تمالحونا)...او (صار بيننا عيش وملح)....او في تمجيد عشيرة اخرى نقول (انتم ملح البلاد)....اما اذا ما اردنا ان نثني على شخص نقول انه(من الزلام المليحين).....وكنا نصف مرق اللحم ب(الملاح او المليحية).
في الجانب الاخر كان الناس يقطعون مسافات طويلة لجلب اكياس الملح...وقد برع اخوتنا الدروز ...والغوارنة في بناء الملاحات واستخراج الملح في منطقتي الازرق والبحر الميت(غور الصافي..والاغوار الجنوبية).
اما في افريقي فقدا كانت هناك ولا تزال قبائل تعتاش على استخراج وتجارة الملح...كذلك في اوروبا واسيا وبقية ارجاء العالم.....وفي كثير من الحالات نشبت صراعات وحروب وبنيت احلاف وعلاقات حول مادة الملح وتداولها والتحكم فيها.
لقد كان الملح مساعدا للانسان في صناعاته المبكرة للجلود بصفتها اول انواع الملابس التي عرفها ..وتخزين اللحوم والاسماك وحفظ الاغذية لتمكينه من استهلاكها في غير مواسمها.
في قرانا كنا نستهلك ما يسمى بالكشك البلدي او قطين البندورة في الشتاء لطبخ اطباق الرشوف وتطييب القمح المغلي في قدور لا يضاف لها غير الملح. واليوم نتمتع بطبقنا الاردني الاول الذي تتحدد جودتة بنوع الجميد بنعمة التمليح التي منحها لنا الملح.
بعد رحلته الطويلة مع الانسان يجثم الملح اليوم في زوايا المحلات التجارية الكبرى والصغرى بعد ان افقدته المنافسة بريقه ومكانته. فقد اوجد التصنيع مئات المواد الحافظة التي استبدلت اكياسه العملاقة التي طالما كانت الجمال والبغال تئن تحت ثقلها بعبوات صغيرة لاتتجاوز اوزانها الكيلو غرام الواحد.....واصبحنا نزينها ونرتبها لنجعلها جذابة....بعد ان كانت بلوراته تتلأ لأ مثل حبات الكريستال.
كانت امهاتنا يضفن الملح الى الطحين عند عجنه بحرفية ورشاقة ودون الرجوع الى وصفات رؤوساء الطباخين الذين نثروا وصفاتههم على جدران مكتبات مدننا واحيائنا.وبدون قصد تبقى بعض اضراس الملح التي استعصت على الذوبان وتقيم لنفسها زاوية في احشاء الرغيف لنكتشفها بين فكينا ونحافظ عليها بعد ان نطفي ملوحتها بجرعات من الماء....ويستهوي بعضنا البحث ورحلة الاستكشاف التي تجعل من تفاصيل حياتنا اليومية مغامرات لا تنتهي ولا يعرفها الى من شهد العملية من اولها الى اخرها.
لا اظن ان محمود درويش يقصد الملح المختبيء في الخبز وهو يعبر عن اشتياقه الى خبز امه....لكنني انا المشتاق الى اضراس الملح التي ذكرتها فوالله انها اطيب من كل انواع الخبز التي شهدتها ومرت على عيوني في السنوات التي تلت وصفة امي وهي تمارس طقس البدايات وتتلذذ في نثر اضراس الملح على طحينها وتسكب عليهما ماء النبع بتعويذة ظنت انها الاقدر على مباركة طعامنا وخبزنا ومائنا....
في تلك الايام كنا نعرف من اين ياتي القمح والخبز والماء والملح ....وكنا نعرف التراب الذي انبت القمح ونشهد تساقط حبات المطر التي ستتكفل بسقاية البذار ليتحول الى سنابل
سنقطفها ونفرغها ونحولها الى خبز بعد ان ننثر عليها حبات الملح من الخابية التي ملئها ابي من رحلته الاخيرة من الاغوار وبدى عليها النضارة لانها افترقت حديثا عن مياه البحيرة الاكثر ملوحة على وجه الارض.
كان اهالينا يعبرون عن ضيق حال اليد اذا ما ارادو ا ان يصفوا تدهور اوضاع اسرة من الاسر بانه تشحد الملح......فالملح هو اغلى ما تملك الاسر وهو عنوان وجودها والوصول الى طلبه من الغير تعبير عن سوء حال ما بعده سوء...
"لماذا ظلمنا الملح....فالرجل الحقيقي لا يكذب."
ربي ادم علينا نعمك.....وملحنا.....وخبزنا.