تعدُّ الصدقة الخفيّة من أهم مسارب الخير في المجتمع ، وتقوم على عمل البرِّ الذي يخلو من كل اشكال الرياء والسمعة وتخلو من معاني الاستعراض والنجومية ، و من مقاصد الاستثمار لتحقيق مصالح شخصية واستجلاب منافع مادية وغير مادية ، من خلال الظهور بمظاهر الصلاح ، ومظاهر الورع والتقوى .
رمضان يعدُّ فرصة غنية ومدرسة عملية لتنمية مسرب الصدقة الخفية في المجتمع ، وتدريب النفس على هذا الصنف من أعمال البرِّ الذي يغذي الروح وينمي نزعة السمو لدى الانسان من خلال البحث عما يحقق رضا الرحمن بمستوى صدقية عالٍ ، ومن خلال نسج علاقة خفية مع الله تمتاز بالطهر والنقاء والإخلاص الذي لا تشوبه شائبة .
الصدقة الخفية لها أثر كبير على نفسية المتصَّدق عليه ، بحيث تحفظ كرامته ، وتصون مروءته من الخدش أو الانتقاص أو الإهانة ، وتحمي الفقراء وذوي الحاجات من ذل السؤال والاستعطاء ، و من مشاعر النقص والحاجة للآخرين ، كما انها تحمي المتصدِّق نفسه من مشاعر الخيلاء والاستعلاء ، وتحميه من الغرور والشعور بالفوقية، ومن أن يتسلل اليه الشعور بالنجومية وحب المديح ، أو أن يقع تحت وطأة أن يقال عنه كريم ومن أهل الخير ، أو الاستثمار في أعمال الخير لتحقيق مزيد من الربح ولخدمة مصالحه المادية .
المجتمع الإسلامي في مراحله التاريخية السابقة كان يتعزز لديه هذا السلوك ، وهذا المسرب الخفي في الصدقة وكافة أعمال البرِّ ، بحيث كان الحرص كبيرا على حفظ ماء الوجه لتلك الشريحة المبتلاة بالعسر وضيق ذات اليد ، أو أولئك الذين تعرضوا لمغارم ثقيلة أو أصابتهم جائحة ، أو فقدوا المعيل ومصدر المال وكلنا جميعاً معرَّضون لتقلبات الدهر ، ومعرَّضون لتغيّر الأحوال ولا أحد يستطيع أن يضمن ماله ومستقبله وصحته ، فمن الواجب أن يضع الانسان نفسه موضع هؤلاء ، وأن يتخيل نفسه في هذا الواقع وفي هذا الحال .
الصدقة الخفية لا تقتصر على إعطاء المال ، أو الطعام أو ملابس فقط, بل خفاء الصدقة له أشكال كثيرة لا تعد، فالتاجر الذي لا يستغل ولا يحتكر ولا يغش ولا يدلِّس ، فقد تصدق بخفاء، والتاجر الذي يرخِّص في الأسعار ، ويسهم باستقرار السوق تصدق بأعظم الصدقات ، والموظف الذي يحفظ المال العام ، ويمنع الهدر تصدَّق بصدقة خفية ، والمسؤول الذي يسهم باتخاذ السياسات العادلة ،
والقرارات التي تحفظ حقوق العامة ، وتسهل على الفقراء والمساكين تصدَّق صدقة محفوظة، ومن أعظم الصدقات أن تحفظ عرض اخيك في غيبته ، وتحول دون الإساءة اليه وهو لا يعلم وتذبَّ عنه في المجالس .
إزالة الأذى عن طرقات الناس ، والعمل على حفظ البيئة وصفها الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- بأنها صدقة ، كما ذكر أنك إذا أصلحت بين المتخاصمين ، أو أعنت الرجل على دابته فذلك من أصناف الصدقات ، لذلك فإن التسامح والتغافر، وعدم ردِّ الإساءة على الآخرين فذلك صدقة خفية على من تعرف ومن لا تعرف ، و الذي يربي أبناءه على حفظ البيئة ونظافتها ، ويربيهم على التعاون وتقديم الخدمة للناس وذوي الحاجات يعد ذلك من أعظم الصدقات وأجزلها ثواباً وأكثرها أجراً ، حيث عدَّها النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- أكثر أجراً من الصلاة في مسجده .
روى عن الرسول محمد -عليه الصلاة والسلام- أنه ذكر سبعة أصناف من الناس يحظون بمكانه عالية يوم الحساب ويستظلون بظل الرحمن حيث لا ظل إلا ظله ، ومن هؤلاء رجل تصدَّق بصدقة ، لا تعلم يمينه ما أنفقت شماله ، كناية عن إخفاء الصدقة والمبالغة بعدم إظهارها علامة على إخلاص النية وصدق العمل ، فما أحوجنا في هذا الشهر الكريم أن نعيد هذا السلوك السامي من مسالك الخير والبر ، وأن يدرب الإنسان نفسه على هذا النمط من أعمال الخير ، ليصبح خلقاً أصيلاً في النفس وسجيَّة من سجاياها الدائمة .
(الدستور)