أيار -2006
كتب الطبيب عائد إلى آخر مرضاه وصفة علاجية غير معتادة في الطب ، قرأها المريض باستغراب :" رغم تكاثر الأقلام كالأنام، وانقراض المندهشين مما "يجري و يمشي" على بسيطة الإنسانية ،وتفشّي انفلونزا الاحتلال ، أدعوك أخي العليل إلى الكتابة الليلية بعد مشاهدتك لنشرة الأخبار مرة واحدة يوميا ً لمدة أربعة أيام" .
و كأن المريض استوعب استغرابه في بداية الأمر أملا ً منه في خوض تجربة الكتابة كعلاج جديد لمرضه القديم، و سأل الطبيب: " عن أي شيء أكتب؟" أجابه:" اسأل نفسك" ... .و تابع مشيرا ً إلى باب العيادة " اعذرني يا عمي على عجلتي...! إذا أحسنت الكتابة ربما أسألك الاستمرار فيها و نشرها في الصحف اليومية ".
و لكن المريض أصر على متابعة استيعابه أملا ً في نجاح هذه التجربة، فقال موضحا ً:"لا ننتظر هنا الليل أو النهار، وغير مرّخص هنا تلفاز أو مذياع ". و لكن عائد لم يجب لأنه لا يصدق مريضه. ورحل المريض بعد أن عاد إلى قراءة الوصفة و عرف أنه نسي قراءة الملاحظة في آخرها:" عدم السؤال شرط ٌ لنجاح العلاج ".
***
كتب المريض في الليلة الأولى بعد تخيّله لنشرة الأخبار : " استشهد ثمانية من إخوتي، و سقط ثلاثة و أربعين جريحا ً من أقاربي. وسُجن أربعة من أبنائي ومازال الجاني طليقا ً يبحث عن والدي لينفذ فيه حكم الإعدام بتهمة إنجاب أمثالي..!"
***
و في الليلة التالية تناول قلمه من تحت فرشته و حصل على ورقته- أخيرا ً -بعدما قرأها جميع نزلاء هذه الزنزانة و كتب:" بقي لي شقيق واحد، و قريب واحد، و ابن واحد، و قد عثر الجاني على والدي، و غدا موعد تنفيذ حكم الإعدام فيه."
أمست وصفة العلاج الكتابية شائعة بين أصدقائه في عالمه . وبينما كان الجميع في الليلة الثالثة يتخّيل نشرة الأخبار ليكتب عن إجابة سؤاله لنفسه ،انقطع تيار الخيال فجأة،و انطفأ نور الزنزانة الشحيح... ، و بعد ثوان جاء حارس الزنزانة بشمعة مضيئة، و كأنه على علم مسبق بانقطاع التيار الكهربائي ووضعها على باب الزنزانة ورحل، دون أن ينطق بكلمة سوى ضحكة خبيثة يحاول إخفائها.
صاح المريض(9 ): أخافتهم أقلامنا؟ فقطعوا التيار.
أضاف المريض(10): و الطبيب عائد أيضا ً... .
تدخل المريض (11): سيزورنا بعد غد.
ثم انطفأت الشمعة وساد ظلام مصطنع في الغرفة... و أشعلت ضحكة مصطنعة من المريض عائد و سأل: كيف سنكتب اليوم ؟
أجاب المريض (9):سنكتب في الظلمة، ألسنا نعيش منذ سنوات هنا في الظلمة؟
جاء صوت الحارس من مكانه البعيد - حيث لم يبارحه قط: مريض...! .
ضحك المريض (10) باستهزاء و قال : دعونا نرسم في هذه الليلة .
قال المريض (9) : سأرسم ابنتي ريم.
قال المريض (11) محدقا بدخان سيجارته أمامه: و أنا سأرسم دارنا.
اعترض عائد : ولكن لا بد أن نتابع كتابة الوصفة.... .
تدخل المريض (10) : لنرسم الأمل ... .
علق المريض (9): و لكن الأمل بحاجة لألوان و لا نملك ألوانا ً.
همس عائد متسائلا ً : و الوصفة؟
***
بعد مضي الليلة الرابعة انتظر الطبيب عائد مريضه في الغرفة العلوية من السجن، و طال انتظاره دون أن يظهر. نزل يتفقد الزنزانة الثلجية فوجدها تذوب قطعة قطعة و يظهر في وسطها ورقة كتب عليها تحت عنوان" الليلة الرابعة":الى الطبيب عائد ،
حاولنا جاهدين انتظار الليلة الرابعة و لكن الحارس أبى إلا أن ينقلنا إلى مستشفى المجانين متهما ً إيانا بالمجانين ، وقبل نقلنا اتفقنا على كتابة هذه الرسالة لك ، فهل تصدق يا دكتور عائد أن المجانين يتفقون على أمر واحد ؟ .....
نادى الطبيب عائد الحارس إسماعيل ، أراد أن يكمل قراءة الورقة، و لكنه لم يفهم منها شيئا ، كلمات و جمل متقطعة ليس لها معنى ، ورسومات هي أقرب إلى الخربشات، بدت عليها آثار الزمن واضحة .
جاء إسماعيل السمين بروبه الأبيض النظيف منتعلا ً حذاءه الأبيض الطبي واضعا ً يديه في جيبه ووقف ساندا ً ظهره إلى الحائط : نعم .
سأله دون أن ينظر إليه و هو يعيد الورقة إلى جيبه: أين مريض هذه الغرفة؟
أجاب و كأنه يتلو درسه الأسبوعي: لم يدخل مريض إلى هذه الغرفة غيرك منذ سنتين عندما تركت العمل بعد انتحار مريضها عائد قبل عامين .
عائد: و كيف حصلت أنا على المفاتيح؟
إسماعيل :هل نسيت؟ لأنك عائد.
الكاتبة محررة في دائرة العلاقات العامة
جامعة اليرموك
smellcofe@hotmail.com