يروى عن فلسطيني من الذين هاجروا مبكرا إلى دولة خليجية، أنه التقى هناك أعرابيا لم يكن ملما بما حل بالفلسطينيين من نكبة. وبعد أن سأل الفلسطيني من أين جاء ولماذا، أسهب الأخير في وصف بلاده الجميلة ومقدساتها، وكيف احتلها الصهاينة وشردوا أهلها. وبعد أن انتهى الفلسطيني من شرح فصول المأساة، سأله الأعرابي: "والأمير يدري؟". فصدم الفلسطيني وقال له إنه لا يدري!
اليوم، بعد أن أعلن أبو محمد العدناني دولة الخلافة التي لا تعرف حدودا، ودعا إلى مبايعة الخليفة إبراهيم عواد البدري القرشي، يحق لنا أن نسأل بنفس منطق الأعرابي قبل نصف قرن: وهل يدري "الخليفة"؟ فعالم الأعرابي كان مقصورا على حدود عيشه في بلده، وكانت القوة الحاكمة التي تتدخل لتصويب الأمور هي "الأمير"، ولم يكن يدري أن العالم أوسع كثيرا وأشد تعقيدا من أن يكون تحت سيطرة أمير.
في الحرب الطائفية المفتوحة، ممكن أن يجد "الخليفة" من يبايعه نكاية بالطرف الآخر. لكن في الواقع، لا توجد دولة خلافة ولا دولة في العراق ولا في الشام. ولو قرأ "الخليفة" التاريخ جيدا، لوجد أن الخلافة انتهت عمليا بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى، ولم يعد الخليفة يحكم اسطنبول نفسها، وظل على رأس عمله شكليا حتى العام 1924، وكان خطباء المساجد يدعون له بالنصر والسؤدد.
تاريخيا، العالم كله لم يعد فيه "خليفة". ولو لم يُلغَ المنصب رسميا، لبقي كملوك أوروبا الدستوريين، يقيم في قصره ويشارك في الاحتفالات الرسمية. النظام السياسي في الغرب والشرق تحلل وتفكك، وبدأ يأخذ أشكالا جديدة غير معروفة من قبل. لم تعد الإمبراطورية البريطانية لا تغيب عنها الشمس، وفي الحرب العالمية الثانية تأكدت حقيقة أن العالم أكثر تنوعا من أن يحكمه خليفة أو إمبراطور أو قيصر، سواء في النمسا أم في اليابان أم في روسيا والصين.
اليوم، نحن أمام "خلافة" تتسع وتضيق مساحتها بحسب آخر معركة، ولا تتحمل مسؤولية أحد من رعيتها. فعندما كانت "دولة العراق الإسلامية"، لم يكن لها سلطان على العاصمة بغداد، ولا موازناتها ومصادر دخلها؛ نفطا وضرائب وإيرادات ونفقات. وعندما ضُمت الشام إليها، لم يؤثر ذلك على قرار بشار الأسد بترشيح نفسه وإعادة انتخابه. ولم يحمِ "الخليفة" في كل الأحوال رعيته من براميل موت بشار، ولا فرق موت المالكي. اليوم هو مسؤول عن الأمة كلها، وليس عن أهل الشام والعراق؛ هو مسؤول عن حماية أهل الخليل وغزة الذين يسامون الموت. و"الأقصى" في الأسر قبل أن يولد "الخليفة".
لا يوجد خلافة ولا خليفة؛ يوجد تنظيم متطرف استفاد من تطرف بشار الأسد ونوري المالكي، وتمكن من تحقيق حضور عسكري في ظل حرب طائفية. وهو مدين لهذه الحرب في تجنيد آلاف المقاتلين من داخل العراق وسورية وخارجهما. وإعلانه الخلافة لا يحسن من صورته شيئا، بل ستستخدم الكذبة الجديدة في إراقة مزيد من دماء من يرفضون بيعة الخليفة الذي يستطيع قتلهم ولا يستطيع حمايتهم.
لا داعي للأكاذيب في الشهر الفضيل؛ لم تتوحد سورية والعراق. وإزالة السواتر الترابية، تم في وقت تقسمت فيه سورية والعراق، وبنيت أسوار بين أبناء الدولة الواحدة. صحيح أنك تقطع حدود "سايكس-بيكو" من دون جواز سفر، لكن الأصح أنك لا تستطيع أن تنتقل بين دمشق وغوطتها وبين حماة وريفها وبين بغداد والأنبار، لأن سلطات كثيرة تنازع "الخليفة" سلطانه. وهو نفسه لا يستطيع أن يذهب إلى بلده سامراء، ولو سمّى نفسه خليفة.
قليلا من الصدق مع الذات يا دعاة الخلافة، فربما أن "الخليفة" لا يدري!
(الغد)