المسألة لا تحتاج إلى خيال جامح أو اجتراح معجزة، لأنه بمقدور أي عربي أن يغمض عينيه دقيقة واحدة، ويستعرض أربعة عقود مر بها العراق شهدت من التناقضات ما لا يمكن تصوره، سواء من حيث الحروب ودوافعها ونتائجها أو من حيث ما شهدته البوابة الشرقية من إقبال وإدبار، فالعراق يبدو لأول وهلة مفهوماً بكل تعقيداته الديمغرافية وتضاريسه الطائفية، وموقعه الاسثنائي بكل المقاييس وليس بالمقياس الجيوسياسي فقط. وتاريخ هذا البلد العربي العريق تراجيدي بعدة امتيازات فقد شهد من الرفاه الرشيدي ما لم يشهده سواه، حتى أن الخليفة قال للسحابة اذهبي حيث شئت لكن المطر في فضاء العراق، ونادراً ما تحول الاسم إلى فعل كما حدث لبغداد.. التي قيل إن من ينعم بالحياة ومسرَّاتها هو من يتبغدد، ونادراً ما بلغت كثافة الإخضرار حد السواء لفرط الخصب، لكن السياب قال ما مر عام والعراق ليس فيه جوع ثم غنى تربته الحبيبة وحملها على ظهره في منافيه كالصليب.
الغنى والفاقة، والشعر الوفير والواقعية الفولاذية، والحب في أقصى تجلياته العذرية والغدر أنت تكون عراقياً فأنت محظوظ بذاكرة لا توأم لها غير الفردوس المفقود وأن تكون عراقياً فأنت منكود لأنه ما من عصر أوشك فيه القمر على الاكتمال في سماء العراق حتى أطلقت عليه النيران لكي تطفئه، لهذا نتمنى على من يريد منهم الرافدين أن يقرأ الراحل علي الوردي في لمحاته الاجتماعية، لأن المجتمعات العريقة وذات العمر المديد عصية على الفهم السياحي وكذلك على محاولة الفهم السياحي وكذلك على محاولة الفهم السياسي بمعزل عن كل ما هو سايكولوجي وسوسيولوجي، ورغم ما قيل عن العراق وعن كونه ما بين الأنهار الثلاثة، دجلة والفرات ونهر الدموع، إلا أن هذا البلد فيه الكثير من مواصفات العنقاء، وكونه عاد إلى الحياة في القرن السابع الهجري معنى ذلك أنه لا يموت، لهذا فإن ما جرى له لو جرى لسواه لأصبح خارج التاريخ والجغرافيا معاً، فقد نزف من الدم ما يكفي لأن يطفو على دمه وقد يكون مسقط رأس الناي الشجي أهواره وحقول القصب فيه أضاعه العرب وأي بلد أضاعوا وألقاه العالم في اليم وقال له إياك أن تبتل بالدم، وهو الآن يتساءل بحيرة: أنا عراق مَنْ؟!
لقد ادَّعاه من ادَّعاه، وخذله من خذله، ففقد البوصلة لبعض الوقت وتداخلت لديه الجهات فلا يدري أجنوب ما يقصده أم شمال؟
أراده غزاته أمثولة قابلة للتعريب ففككوا أعزَّ ما فيه على أهله وهو الجيش، وابتدعوا خرافة جديدة تقترح التدمير بديلاً للتحرير، وانتهوا إلى هدف سيطويه العراق في ملفه الكبير وهو إخراج العراق من العراق.
أن تكون عراقياً.. ذلك هو الاختبار القومي والإنساني العسير!
(الدستور)