أين تكمن المشكلة وما هو جوهرها الحقيقي، وما التشخيص الدقيق لكل ما يجري من أحداث، وما نشاهده من ظواهر وآثار، على مستوى محلي وإقليمي تدمي القلب، وتدعو للحزن والخوف والقلق وتهدد الأوطان وأمنها واستقرارها، وتهدد مستقبل الأجيال.
على المستوى المحلي هناك ملحوظة في حوادث القتل، وزيادة ملحوظة بمؤشرات استعمال العنف، وهناك زيادة ملحوظة بحجم المخالفات والتمرد على القانون والنظام، وهناك نزوع فردي وجماعي نحو الإقدام على استخدام اليد والتدخل عنوة لأخذ الحق ورفع الظلم إن وجد، مصحوب بضعف الإقبال على الطرق القانونية الهادئة، وعلى المستوى الإقليمي نشاهد حوادث القتل بالجملة، والاستنفار البشع بين مكونات المجتمع ضد بعضها بعضاً، بكل ما تملك من أدوات القتل و وسائل الإبادة، وكل ذلك مصحوب بعنف لفظي وخطاب كراهية شديد، ولغة تفيض بكل معاني الضغينة والحقد والغل الذي يملأ الصدور، ويفيض القلب على الجوارح لفظاً وسلوكاً.
يحدثني صديقي القادم من كندا قبل يومين عن ظاهرة الالتزام الطوعي بالقانون والأنظمة التي تصل إلى حد الإبهار، فعندما يأتي السائق الى تقاطع شوارع لا يحمل إشارة ضوئية، فعلى السائق القادم أن يعد السيارات الواقفة على التقاطع قبله حتى يعلم دوره بالمرور كل بحسب وقت قدومه، ولا يستطيع أحد أن يتجاوز دوره، ثم يكلمني عن التزام الأهالي بتوزيع نفاياتهم على ثلاثة أكياس محددة، حيث أن كل كيس مخصص لنوع من النفايات من أجل فرز الأوراق والزجاج والأطعمة، لتسهيل عملية التدوير التي تشرف عليها شركات مختصة بإدارة البلديات ومؤسسات الحكم المحلي، وهذا شأن أمور كثيرة ومظاهر لا عدَّ لها ولا حصر تعبر عن شدة الالتزام بالقانون ودقة الخضوع للأنظمة، مما يجعل الحياة هادئة وسلسة، وتخلو من المشاحنات والنزاعات والتعارك بالأيدي على الصغيرة والكبيرة، ومن يخالف يتحمل غرامة ثقيلة تتضاعف بتكرار المخالفة، ولا يستطيع أحد أن ينجو من الغرامة أو يتحايل عليها، عن طريق الوساطات والمعارف، أو عن طريق التلاعب بالحاسوب وتزييف الأسماء واستبدالها، كما يحدث في بلاد العربان، ويقول محدثي إن الغرباء القادمين على كندا من بلاد العرب أو من الأقطار الإفريقية سرعان ما ينضبطون بالنظام العام ويصبحون كالساعة في تلك البلاد، بعد تعرضهم في المرات الأولى للغرامات والعقوبات الصارمة التي لا ترحم.
يذكرني حديث صديقي الذي هاجر إلى كندا للحصول على الجنسية والذي ربما يسلخ من عمره خمس سنوات أو أكثر لتحقيق هذه الغاية، ولكنه يشعر بالسعادة في ظل المقارنات التي تحدث في كل موقف وفي كل يوم عشرات المرات في الشوارع والطرق وعلى أبواب المؤسسات، وأثناء التسوق أو أي شكل من أشكال التعامل اليومي، يذكرني حديثه بالدراسة التي أجراها أحد الأساتذة الباحثين في جامعة جورج واشنطن حول التزام الدول والمجتمعات بمنظومة القيم القرآنية، حيث استنبط عشرات القيم من نصوص القرآن وأجرى دراسات اجتماعية في مختلف دول العالم حول الالتزام الجماعي الواسع بها، فوجد أن دول العالم الأوروبي والعالم المتقدم مثل : إيرلندا واستراليا والسويد واليابان تحتل المراتب الأولى، بينما تقبع دول العالم الإسلامي في ذيل القائمة.
هذا يقودنا إلى جوهر المشكلة وجذورها، حيث تكمن الأزمة التي نعيشها في قدرة المجتمعات على تمثل القيم والالتزام بها، فنحن قد أخطأنا بفهم أن الدين عبارة عن مجموعة قيم، تنظم سلوك الإنسان في كل مجالات الحياة، وتنظم تعامله مع عناصر الوجود ومفردات الكون، فهي تنظم تعامله مع الخالق، ومع ذاته ومع الآخر، ومع الوقت والعلم، ومع الأدوات والوسائل، ومع الحيوان والنبات، ومع الهواء والماء، ومع الأفكار وتطبيقاتها، وتحول الدين عند كثير من أتباعه الى طقوس جافة وشكليات باهتة، ومظاهر لفظية جوفاء تخلو من جوهرها القيمي، وينطبق ذلك على كثير من أصحاب الأفكار والاتجاهات الذين تمسكوا بالقشور وتركوا اللباب، وينطبق ذلك على أغلبية واسعة من العامة والخاصة، ولا يختص ذلك بطرف دون طرف، أو جهة دون جهة.
نحن بحاجة جمعية أن نحول منظومتنا القيمية إلى سجل اجتماعي حضاري عريق، وأن نحرسها بالقوانين والتشريعات المنضبطة، وأن يتم فرض العقوبات والغرامات على المخالف، وعدم التهاون بأي خلل أو خروج مهما كان صغيراً، ومن أي شخص أو فئة، بشكل صارم وحاسم، وعادل ونزيه ومعلن، وبغير ذلك سنحصد المر والعلقم، في ظل زيادة نسبة الخروقات واتساع مساحات الخروج والتمرد والنزوع إلى الفوضى.
(الدستور)