لا نعرف، تحديداً، ماذا يحمل وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، في جعبته (خلال الزيارة الحالية) بشأن المسار المتدهور في العراق، الذي يتجه نحو حرب أهلية داخلية واسعة المدى. إذ إنّ اختزال الأزمة الراهنة في إيجاد بديل عن رئيس الوزراء الحالي، نوري المالكي، لم يعد مجدياً، وأصبح متأخراً.
الحل الوحيد في العراق يتمثّل في إعادة هيكلة النظام السياسي والقوى الأمنية والعسكرية، وإزالة التهميش والإقصاء والاضطهاد عن المجتمع السني. وهي السياسات الهوياتية الطائفية التي درجت عليها القوى المؤيدة لإيران والمدعومة من الولايات المتحدة الأميركية منذ العام 2003. لكن مثل هذا "الحل" أصبح خيالياً؛ إذ لن تقبل لا إيران ولا حلفاؤها بخسارة الوقائع الحالية!
الخشية تتجاوز ذلك كثيراً على مستقبل العراق، بل المنطقة بأسرها. فأحد آخر الفيديوهات التي نشرها تنظيم "داعش" على مواقع التواصل الاجتماعي، تمهّد وتدعو إلى "غزوة بغداد الكبرى"، وتحرّض المقاتلين والسُنة و"المهاجرين" العرب على الاستعداد لاسترداد بغداد ممن تطلق عليهم اسم "الصفويين".
في المقابل، شاهدنا أول من أمس استعراضاً عسكرياً لآلاف المقاتلين من جيش المهدي (الذي كان من المفترض أنّ زعيمه مقتدى الصدر أعلن حلّه قبل أعوام)، برعاية رسمية، وبحضور عدد من النواب والمسؤولين، في الوقت الذي أعلنت فيه مصادر رسمية عراقية عن تجنيد عشرات الآلاف من المتطوعين في الجيش العراقي لقتال "المسلحين"، بعدما انهارت فرق عديدة من الجيش العراقي ولم تصمد أمام الثورة المسلحة ساعاتٍ قليلة!
بالنتيجة، مثل هذه الاستعدادات العسكرية لمليشيات متطرفة، مثل جيش المهدي وعصائب أهل الحق، وغيرها من مجموعات برعاية رسمية، وإدماجها في القوات العراقية ودفع رواتب شهرية لها، تحت عنوان "المتطوعين"، كل ذلك بمثابة غطاء رسمي لحرب الميليشيات القادمة، التي يستعد لها "داعش" من الطرف السني.
في الأثناء، تسلّم الحكومة العراقية زمام الأمور للمليشيات ولقائد فيلق القدس، الزعيم الإيراني المعروف قاسم سليماني، ليدير المعارك، كما يفعل في سورية، ضد الفصائل السنية الأخرى، ومن بينها "جبهة النصرة" و"داعش".
نجد أنفسنا، اليوم، أمام شبح معارك دموية، أبطالها البغدادي والسليماني وقيس الخزعلي؛ وأمام وثائق وبيانات تتحدث عن وثيقة الموصل والوثيقة السعدية لداعش ومشروعه الأيديولوجي (إقامة الحدود وقطع الأطراف وتحريم التعددية)، وأحد بنوده الأساسية هدم أضرحة الأولياء حتى لا تتحول إلى معابد تناقض العقيدة (وفقاً للفكر السلفي)، وهو ما سيصطدم مع عقائد جيش الطريقة النقشبندية الصوفي!
على الطرف الآخر، يتحدث القادة الشيعة في العراق وإيران عن الاستعداد لمعركة وجودية في الدفاع عن "أضرحة الأئمة"، والتمهيد لعودة المهدي المنتظر؛ فأيّ أيّام نحن بانتظارها، وأيّ مستقبل لأطفال يتربون في كنف هذه الجماعات والتنظيمات على أطراف المعادلة المختلفة؟!
ماذا سيفعل كيري، إذن، في زيارته الراهنة، وماذا نتوقع منه؛ بعد أن وجدنا (في خطاب الرئيس باراك أوباما الأخير حول العراق) إدراكاً متأخراً بأنّ الحل العسكري لن يجدي نفعاً، وبأنّ أساس المشكلة هو سياسي مرتبط بالسياسات الطائفية للمالكي، وبعد أن حذّره مارك لينش (الخبير المعروف بالشرق الأوسط، والمقرب من الإدارة الحالية) بأنّ أي تدخل عسكري سيؤلب السنّة العرب على الولايات المتحدة، وسيُعدّ بمثابة انتصار لطائفة على أخرى؟!
بالطبع، نتمنّى أن نتحدث عن سيناريو مختلف تماماً، لكن المؤشرات والوقائع ترجّح أنّنا أمام مرحلة قادمة صعبة للغاية، ستعيد إنتاج الحرب الطائفية والعرقية الداخلية، وستخلق سيناريو عراقيا رهيبا إلى جوار السيناريو السوري؛ فصدام الهويّات الطائفية والعرقية لن ينتج إلاّ تمزيقاً جغرافياً واجتماعياً، وتكسيراً للأوطان والثقافات، وإنتاجاً وتفريخاً للتطرف والراديكالية، ليس في هذه المناطق فقط، بل في أغلب أحشاء المجتمعات العربية والإسلامية!
(الغد)