هذه هي المرة الثالثة التي يتم فيها الإفراج عن أبي محمد المقدسي منذ بداية محاكماته في الأردن؛ بدءاً من العام 1994 عندما اعتُقل على خلفية قضية "بيعة الإمام" (مع رفاقه أبي مصعب الزرقاوي وخالد العاروري وغيرهما). إذ أُفرج عنه في العام 1999 (في العفو العام مع الزرقاوي الذي غادر إلى أفغانستان والعراق لاحقاً). واعتُقل مرة أخرى في العام 2002، وأفرج عنه. ثم أعيد اعتقاله بعد ذلك بسنوات بتهمة دعم حركة طالبان في العام 2010، وهو اليوم ينهي محكوميته، ويتم الإفراج عنه.
المقدسي هو محمد عصام البرقاوي (نسبة إلى قرية برقة من أعمال نابلس)، من مواليد العام 1959. سافر مع عائلته في فترة مبكّرة جداً من حياته إلى الكويت، ونشأ هناك، إلى أن غادر إلى الموصل لدراسة العلوم. لكن طموحه كان في دراسة الشريعة، فانتقل إلى السعودية ودرس على يد العديد من المشايخ. وذهب في رحلات إلى أفغانستان وباكستان، والتقى قيادات "القاعدة" والجهاديين هناك، وإن كان يؤكد دوماً بأنّه لم ينضم إلى "القاعدة".
عاد المقدسي إلى الأردن في العام 1992، مع مئات الآلاف من العاملين في الخليج. وعملياً، بدأت شهرة المقدسي تكبر وصيته ينتشر بعد ذلك، عبر العديد من المؤلفات التي توزّع وتنشر بصورة سريّة في عمان، وتنتقل إلى دول أخرى. ولعلّ الكتاب العمدة "ملة إبراهيم وأساليب الطغاة في تمييعها" هو الذي يلخّص جوهر الفكرة التي يدعو إليها، وأصبحت لاحقاً ثيمة التيار السلفي الجهادي، هي اعتبار كل الأنظمة القائمة على غير الأساس الإسلامي الصلب الكامل أنظمة كافرة، ودساتيرها وقوانينها وجيوشها وشرطتها تقع خارج دائرة الإسلام. وهذا هو جوهر التوحيد؛ أي الإقرار بأنّ حق التشريع فقط لله وحده، وما دون ذلك هو "حكم الطاغوت".
خلال أعوام معدودة، باتت كتب المقدسي تنشر وتوزع بالآلاف، ويزداد عدد المقتنعين بهذا الفكر والمؤمنين بالمنهج، ويتحول المقدسي نفسه إلى رمز التيار الجديد الذي لم يكن قد اكتسب اسمه المعروف، إلى أن اجترحتُ (مع الصديق حسن أبوهنية) مصطلح التيار "السلفي الجهادي"، فأصبح هذا هو الاسم المتداول والمعروف.
شهدت مسيرة المقدسي تطورات ومحطات مهمة. فهو وإن كان يعد اليوم أحد أبرز رموز السلفية الجهادية، وتعدّه مراكز تفكير أميركية الشخص الأخطر على مستوى العالم، لأنّه هو من أنتج "المعرفة" التي ولّدت السلفية الجهادية، وأصبح مرجعاً حتى لقيادات "القاعدة" نفسها، إلاّ أنّه دخل لاحقاً في خلاف شديد مع تلميذه أبي مصعب الزرقاوي، بعد أن كتب رسالته المشهور "الزرقاوي مناصحة ومناصرة". وأدى ذلك إلى انقسام السلفيين الجهاديين في الأردن بينهما إلى تيارين رئيسين.
تبدو المفارقة في أنّ الوثائق التي عُثر عليها مع أسامة بن لادن، كشفت عن خلافات عميقة مع خطّ الزرقاوي، وهو ما وجدنا ترجمته في مرحلة لاحقة في الخلاف بين "داعش" و"جبهة النصرة". فقسمت "القاعدة" والسلفية الجهادية إلى تيارين في مختلف أنحاء العالم، بينما كان المقدسي هو أول من أعلن الخلاف مع تلميذه ومنهجه الأكثر تشدداً حتى من أفكار السلفية الجهادية المعروفة ذاتها!
انحاز المقدسي، مؤخراً، إلى "جبهة النصرة"؛ مُصدِراً مواقف صارمة من منهج "داعش". وكان قبل ذلك قد تبنّى مبدأ "سلمية الدعوة" في الأردن، فرفض العمل المسلح هنا. وهو مسار يمكن في حال تمّ التعامل معه بذكاء في الظروف الحالية، أن يشكل بحدّ ذاته "خط دفاع" ضد الأعمال العدائية؛ فهل ثمة تفكير رسمي في تقييم استراتيجية الدولة في التعامل مع هذا التيار، في ضوء التطورات الإقليمية والداخلية المتسارعة؟
.
الغد