قبل اكثر من عقدين من الزمان استهوتني الزراعة وكنت قد عدت للتو من الولايات المتحدة مفعما بالامل والحماس والايمان الذي لا يرى في الكون مشكلة يمكن ان تستعصي على من يريد الحل.....
وقتها كنت ابدأ ايامي في الصيف عند الفجر حيث اركب سيارة الفولكس فاجن التي لا تختلف كثيرا عن سيارة رئيس الاورجواي وانطلق باتجاه العالوك..يومها ومع ان راتبي لم يتجاوز ال300دينار الا انني لم اشكو يوما ...من اسعار البنزين ولم يشكل لي قضية
على الاطلاق فقد كان صدام حيا وكان الساسة في بلادنا يحرصون على ان تدار علاقاتنا الخارجية بالشكل الذي ينعكس على المواطنين وحياتهم عزا وخيرا وكرامة.
وما ان اصل الى الارض التي اسميتها مزرعة انذاك حتى اباشر العمل مستعينا بالادوات البدائية التي مكنتني من تنظيف قطعة الارض التي يزيد حجم الصرار (الحجارة الصغيرة)فيها عن اعداد ذرات التراب الظاهرة على السطح .وقد استغرق روتيني هذا سنوات حتى تمكنا من تحويل السفح المكسو بالحجارة وبعض اشجار البلوط الى ارض يمكن ان تقبل اختراق سكك المحراث لسطحها الجاف الجحود.
بعد شهور طويلة من العمل تيقنت ان بامكاني ان اودع في جوف الارض بعض الغرس وان الفها بحزام شائك يحد من اختراقات الاغنام التي كانت تستظل تحت شجرات البلوط التي كان وجودها باعثا للامل بقدرة الارض على الانبات.وبعد ان استكملت تجهيز الارض وتيقنت بان الحياة ستنبعث من ارجاء السفح الذي بدأ ينسلخ عن محيطه لينهض بالمهمة التي اوكلتها له وانا اخاطبه من خلال كل اعمال التعزيل والحراثة والحفر والتسييج والزراعة والسقاية والزيارات المتكررة للحفر التي استوعبت الغراس وزاد منسوبها من الري لتنهض بالمسؤوليات التي اوكلناها لها دون استفتاء.
لقد فهمت الارض معنى الاصلاح بلا بيانات وادركت ان مهامها لم تعد انتظار بزوغ الشمس لتخزين حرارتها والاختباء تحت اكوام الحجارة التي احالتها الى مايشبة الطرقات المرصوفة تمهيدا لتعبيدها..كان علي ان اقيم غرفة للمزارع الذي سيتولى العناية باغراس الزيتون واللوزيات التي تم جلبها من كل مشاتل الوسط لضمان ان لا نتورط بصنف بعينه او نقع ضحية لنصيحة لا يملك الناصح برهانا على صحتها.
استدعيت احد الشباب البنائين من القرية المجاورة وحددت مكان بناء الغرفة التي ستاؤي العامل الذي لم يتم اختياره بعد....وتفاوضنا على الاجرة وحددنا التكلفة التقريبية التي كان علي ان افكر ببرنامج تمويلها مع الخزان الذي سيتسع لثلاثون مترا مكعبا من الماء..
انطلقت الخطة واكتمل البناء وبالصدفة وقع نظري على احد العمال الجالسين على كندرين دوار الجبيهة ونزلت من سيارة الفوكس التي كان دوي محركها يعلو على كل الاصوات في المكان...فقد كان صاحبها الاصلي قد عمل على بندقتها باستبدال محركها بمحرك باص مما اكسبها مظهرا متواضعا وعبقرية فذة في الاداء مثل الكثير من رجالاتنا....تحدثت مع الرجل الاربعيني الجالس على حافة الدوار وسالته ان كان يرغب في ان يضع حدا للبحث اليومي عن رزقته ويقبل ان يعمل في حاكورتي التي هي تحت الانشاء.
تردد فتحي قليلا ثم سالني عن الراتب فاجبته 60دينارا .تفاوضنا قليلا وقبل بعد ان رفعت العرض الى سبعين ....رافقته الى الغرفة التي يتشارك فيها مع عدد من اقاربه من العمال المصريين...وضعنا عدة نومه وحاجياته في المقعد الخلفي لسيارتنا او باصنا.... وتوقفنا لشراء بعض مستلزمات الساكن الجديد وانطلقنا نحو المزرعة التي تبعد نصف ساعة او يزيد.
اخذنا جولة على اطراف المكان...عرفته على الحدود ...وتحدثت عن ماذا اتوقع منه...ودفعت له بالمبلغ المتبقي معي بعد رحلة التسوق وتركته عائدا الى البيت وانا قلق على احواله وغير متيقن من امكانية استمراره في العمل.
غبت عنه ليومين او اكثر لارى اذا ما استطاع ان يحدث فرقا في المكان.... وبكثير من الشك والقلق قررت ان اذهب لتفقد احوالة.....وفي جولة في مطبخنا وجدت بقية المنسف الذي اعددناه البارحة على عجل...دون ان يمر الجميد بمرحلة نقعه لتخليصه من الملوحة التي افسدت مضاقه.....وقد اقبلت على خطوتي هذه بتردد....
وما ان وصلت الى صاحبنا حتى وجدته في حال افضل من الحال الذي تركته عليه...فدفعت له بطبق المنسف المالح باتجاهه قائلا ...بدك تعذرنا يا ابو عمر احنا مش دائما بنطبخ.....وكان في حينها يتذوق الطبق الذي احضرته......وما كان منه الا ان اجاب بلهجته المصرية....
" والنبي قلة طبخكم احسن" .
يا الهي كم هذه العبارة صحيحة وكم تنسحب على مئات المواقف التي يشرف عليها طباخون لا يجيدون فنون الطبخ ....و في هذه الحالة كلنا ابو عمر .