يلقي الجميع بالمسؤولية على أميركا على ما آلت إليه الأوضاع في العراق. هذا استخلاص صحيح، لكنه ليس كافيا لتفسير ما يجري هناك.
صحيح لأن الاحتلال الذي دام عشر سنوات، لم يجلب للعراقيين سوى المزيد من الويلات والدمار؛ عزز الانقسام الطائفي، ومكن الفساد والإرهاب، وترك العراق ساحة لنفوذ القوى الإقليمية.
لكن الاحتلال رحل عن العراق. جميع مكونات المشهد العراقي، من دون استثناء، كانت تطالب برحيل الأميركيين، وتصرخ صباح مساء بأن العراق سيغدو في حال أفضل فور مغادرة آخر جندي أميركي. غير أن العراق صار أسوأ بكثير؛ في زمن الاحتلال كانت هناك قوة واحدة تحكم البلاد، ومن بعده تقاسمت الميليشيات والأحزاب المدن والمحافظات. الجدران العازلة مزقت جسد بغداد، والمفخخات حولت حياة العراقيين إلى جحيم.
تخرّج العراقيون من مرحلة الاحتلال، ومن قبل الاستبداد، لكنهم تحولوا إلى مجتمع فاشل. لم يتمكنوا من بناء هويتهم المستقلة، ظلوا أسرى للضغائن الطائفية والمذهبية، وسلموا مصيرهم لساسة من نفس الطينة.
رحل الاحتلال، غير أن العراقيين أخفقوا في الاعتماد على أنفسهم. لقد تعرضت شعوب كثيرة في العالم للاحتلال وويلاته، لكنها لم تستسلم لثقافته؛ فما إن رحل، حتى أمسكت بمصيرها واستعادت شخصيتها الوطنية. العراقيون فشلوا، وأخشى أن شعوبا عربية أخرى على نفس الطريق.
عندما يتنازل شعب عن هويته الوطنية الجامعة لصالح الهويات الفرعية، فهو حتما ماض إلى الهلاك. لم يعد بلد مثل العراق يواجه خطر الدولة الفاشلة، فقد تخطاها إلى أبعد من ذلك. هو اليوم مرشح لأن يكون دولة هالكة أو منقرضة؛ فالدول مثل الكائنات الحية تنقرض وتزول.
لا السُنة في العراق ولا الشيعة قادرون على بناء كيانات مستقلة، والحال كذلك في سورية ولبنان. ستدخل هذه الكيانات، إن كتب لها التشكل، في حروب تنتهي بانقراضها.
والمفجع في المشهد العراقي اليوم أن الساسة والنخب من مختلف الطوائف والمذاهب، والتي ثارت في وجه الاحتلال الأميركي، تمني النفس بتدخل سيد البيت الأبيض لينقذ ما تبقى من مظاهر الدولة العراقية.
لكن أميركا اليوم ليست أميركا بوش والمحافظين الجدد. طلعات لطائرات من دون طيار أقصى ما يمكن أن يقدمه باراك أوباما للعراقيين، ووعود بتسريع شحنات أسلحة، رغم القلق من سقوطها بيد "داعش" كما حصل في الموصل.
أسوأ ما في حالتنا الراهنة هو أن نخب العالم العربي لا تكل ولا تمل من تصوير ما يجري على أنه مؤامرة أميركية صهيونية، وأحيانا يضاف إيرانية. لكنها تتجاهل، وهي تعرض فصول المؤامرة المزعومة، أن منفذيها هم جموع غفيرة من أبناء الأمة. الأميركي غادر وترك العراق بشأنه، وها هو يرفض التدخل؛ فمن منع العراقيين من تقرير مصيرهم بيدهم؟! من يمنع الليبيين واليمنيين والمصريين من بناء دولتهم الحرة والمستقرة؟!
الفشل في العراق يقع على عاتق شعبه وساسته. لو تذرعت دول أميركا الجنوبية بالتدخل الأميركي الفج والدامي لعقود طويلة، لما كانت على ما هي عليه اليوم.
عديد الدول العربية اليوم في طور الهلاك؛ ليس الأنظمة فحسب، بل المجتمعات الغارقة في التطرف والأمية، وأسيرة نظرية المؤامرة.
(الغد)