في كلمته نهاية القداس، قال المطران مارون اللحام منفعلا، إنه أقام آلاف القداديس في حياته، لكن هذا القداس أحدث أثرا خاصا مختلفا في نفسه؛ فهو كان يقف حرفيا في نفس المكان الذي كان يقف فيه ويقيم القداس أحد أسلافه المطارنة قبل ألف وثلاثمئة عام في الكنيسة الكبرى في المدينة، حين كانت أم الجمال تربض على مدخل الصحراء، نجمة مضيئة يحيط بها الهلال الخصيب، وتمتد أمامها برية بلا حدود. بلدة زاهرة تتقاطع عندها القوافل، ويقيم فيها أثرياء القبائل العربية المسيحية التي أنشأت دولتي المناذرة والغساسنة، ثم استقبلت الفتح الإسلامي وشاركته دحر الفرس والروم.
مشاعر من الفخر الوطني والرضى لا بدّ أنها كانت تجتاح مئات العائلات المسيحية التي وصلت الخربة الوادعة لتشارك في هذا الحفل الجميل، وفي ذهنها الأخبار الساخنة عن الاقتتال الطائفي المرعب في هلالنا المنكوب، بما فاق أكثر التخيلات تشاؤما وسوداوية. ومع أن المسيحيين في العراق وسورية لم يكونوا كطوائف طرفا في التخاصم على السلطة، إلا أن النار طالتهم، لأن التطرف المذهبي والسياسي لا يوفر أحدا؛ يكّفر ويقتل كل من يختلف معه.
في هذا الوقت بالذات، يجد المسيحيون الأردنيون الرعاية والتشجيع لإعادة الحياة لأماكن دينية وإرث انقطعت فيه الحياة منذ ثلاثة عشر قرنا! طبعا، هناك بعد سياحي واقتصادي، لكنه هو نفسه جزء من التفكير المتنور المنفتح الذكي لقيادتنا الهاشمية، وللنخب الوطنية والقيادات المحلية، ومن نماذجها رئيس بلدية أم الجمال الذي ابتدع فكرة إقامة القداس في المكان الذي أقيم فيه آخر قداس قبل ألف وثلاثمئة عام.
في الصف الأول في الصلاة في ساحة الكاتدرائية، كان يقف العين الباشا عواد المساعيد، إلى جانب أمين عام وزارة السياحة عيسى قمو، وسفيرة الاتحاد الأوروبي وسفراء آخرين، وعدد من أبناء البلدة من عشيرة المساعيد، وجمع غفير من المسيحيين جاؤوا من مناطق مختلفة للمشاركة في هذا القداس. وليس صدفة أن رئيس البلدية، أبو سطام، سيغادر إلى نيويورك لتسلم جائزة عن أفضل الإدارات البلدية في منطقة الشرق الأوسط. وقلت له إنها مناسبة للترويج لبلدته التاريخية. ولم يكن طبعا بحاجة إلى لفت انتباه، فهو احتج بشدة وأثار قضية تسمية مخيم اللاجئين السوريين بالزعتري. فالاسم الذي طبقت شهرته الآفاق، كان يمكن أن يذهب لأم الجمال الملاصقة للمخيم؛ حيث يظهر على محركات البحث مرفقا بتعريف للبلدة التاريخية، فيظهر تحت نظر ملايين الناس، بدل أن تذهب شهرة الاسم مجانية بلا فائدة.
بخلاف أماكن أثرية أخرى، فإن الخربة هي بلدة كاملة؛ على زاويتها حصن، وبرج يحتفظ بجزء من بهائه القديم، وبيوت وأسواق وقنوات وبرك ماء وأحواض خاصة وعامة، وكنائس وكاتدرائية. وكل شيء فيها من الحجر البازلتي الأسود، بما في ذلك السقوف والأبواب. وقد نشأت كمدينة نبطية على طريق القوافل، واستمرت في العصر الروماني والبيزنطي تحت اسم كانثا. وبقيت مزدهرة في العصر الأموي، حتى ضربها زلزال مدمر في القرن الثامن الميلادي، فهُجرت تدريجيا. وربما أدى انتقال الخلافة إلى بغداد إلى أفولها الكامل.
وبلدة أم الجمال الحالية بنيت من نفس حجارة البلدة التاريخية، لكن الأهالي حفظوا الأبنية القائمة. وأجدها اليوم كما كانت منذ كنا أطفالا نتجول فيها مدهوشين، باستثناء الباب الحجري للحصن الذي كنا نفتحه ونغلقه من دون صعوبة، وقد وقع لانكسار محوره السفلي.
ترميم البلدة يحتاج الى أموال طائلة. وقد خصصت وزارة السياحة لذلك مائتي ألف دينار هذا العام. لكن ليست الأموال هي الأهم، لأنها ستأتي حين يكون الفكر النير والنزاهة والانتماء الأصيل على رأس القرار.
(الغد)