السؤال الغائب بل المُغيب الآن لدى من ينهمكون في توصيف المشهد العربي والبكاء على أطلاله، هو كم كانت مُدّة الحمل بكل تلك الكوارث قبل أن يولد المُسخ؟ وفي أي زمان ومكان باضت أفاعي العالم كله كي تفقس في هذه الآونة التي يرشح السّم من كل لحظة فيها؟
المدهش ليس ما يجري لأنه تحصيل حاصل بل المدهش هو الواقع العربي الملغوم لعدة عقود وربما لعدة قرون بحيث تطفو على سطح انفجاراته ومستنقعاته كل هذه الغرائب، فالانفجار الطائفي لا يأتي بين عشية وضحاها، وكذلك النزاعات على اختلاف أشكالها وتجلياتها، فلا بد ان مساحة المكبوت كانت اضعاف مساحة العالم العربي جغرافياً، بحيث تنامت الكراهية و ثقافتها الثأرية السوداء في باطن التاريخ!
ان كل ما كان يتم تسويقه اعلامياً عن الدولة الحديثة وأدبياتها كان من صناعة بالغة المهارة في الاستنساخ والتقليد لأن ما كتب وبث ونشر خلال نصف قرن لو كان واحد بالألف منه صادقاً لما انتهى الحال الى ما هو عليه الآن.
والأرجح اننا كنا نتبادل الكذب لحجب الحقائق، بحيث تم اختراع واقع آخر اشبه بلعبة الليغو، لا علاقة له بما يدور فعلياً تحت السّطع، لهذا خدعنا بحر الدم بهدوئه وسطحه المكويّ كقميص، ولم يخطر ببالنا أن تحت ذلك الصّمت الأحمر كائنات متوحشة، واسماك قرش يسيل لعابها كلما شمت المزيد من رائحة الدماء.
ان هذا الذي يجري سواء حولنا أو تحت اقدامنا لا يدهش إلا من يجهلون السبب لهذا يتفاقم لديهم العجب.
ومجرد إدراك القليل من السبب المزمن يتيح لنا على الأقل ان نفهم ما يجري فهو حصيلة رياضية ومنطقية لمعادلة جمع الاصفار، ومن زرعوا الحنظل عليهم ألا ينتظروا عصير التفاح .
وأول تلك الأسباب اضافة الى احتراف النفاق السياسي وتسخير الاعلام للتبرير والتمرير هو اخفاء الجراح في النسيج الاجتماعي، وعدم تضميدها والنظر إليها بخجل كما لو انها عورة فما حدث هو تقيح الجراح ومن ثم اصابة الجسد كله بالغرغرينا، وما يحدث الآن هو قطع أذرع وسيقان لهذا الجسد العربي لكن بدون تخدير.
والمصيبة الأعظم هي عدم الاعتبار بكل ما جرى، بل السعي الى تكراره بطبعات منقحة، واحياناً مزيدة لأن الذهنية لم تتغير وما تغير هو المفردات المتداولة وهذا التغيير تتيحه لغة غنية بالمترادفات بل هي أوسع من امبراطورية في هذا المجال.
ان ابسط بدهيات العلاج للمريض هو مطالبته بالسيرة الصحية لجسده، فكيف سيكون الحال اذا كان المريض وطناً كان يعيش بين ماءين ثم أصبح جزيرة في محيط دم؟
(الدستور)