ما جرى في العراق وما يزال، يمثل حدثاً مفاجئاً وصادماً لكثير من الأطراف المعنية بالعراق ومستقبله، وما زالت الأحداث محاطة بالغموض وما زال المراقبون عاجزين عن رصد التوقعات المستقبلية، والوقوف على تداعيات الانهيار المفاجىء للجيش العراقي الجديد.
لا أريد أن أتحدث عن مجريات الأحداث، ولا عن تفاصيلها وشخصياتها وعناصرها، وإنما أود لفت الانتباه إلى منهجية إدارة الدولة، وطريقة القيادة في الحكم ومجمل السياسات العامة التي شكلت سمة عامة للدولة ومواصفاتها، وكانت عاملاً مهماً من عوامل هذا المآل المفاجىء والمربك لصناع القرار.
منذ سقوط الدولة العراقية في يد الاحتلال الأمريكي بدأت الفتنة الطائفية في النمو والازدهار والتمدد، وعملت الأطراف المؤثرة في إدارة العراق الجديد على الاستثمار في الفتنة واستغلالها أداة من أدوات السيطرة وجعلتها سلماً للوصول إلى تحقيق بغيتها، وتسلم السلطة أحزاب ورجال مشبعون بالتعصب المذهبي المقيت، المفضي إلى تبعيّة مطلقة لقوى متحكمة من الخارج من أجل البحث عن الدعم والإسناد، والبحث عن مصادر القوة الخارجية للبقاء في السلطة والمكث فيها أطول مدة ممكنة.
جرت انتخابات ديمقراطية في العراق الجديد، وتشكلت قوائم وأحزاب وتحالفات، ولكن الإقتراع والإنتخاب كان يجري على أسس عرقية وطائفية ومذهبية، ولم يكن يجري على أسس برامجية تنافسية ولا على أسس الكفاءة ومعايير المصلحة العامة، وتم تشكيل حكومة طائفية مذهبية منبثقة من هذه المنهجية السياسية، التي تم ارساؤها على منطق المحاصصة والتقسيم والولاء المذهبي والتعصب العرقي الشديد، وغرقت في سياسات الفرز الطائفي في كل مناحي الدولة وأجهزتها، وفي تشكيل الجيش والأجهزة الأمنية، وأغرقت المجتمع العراقي كله في حرب أهلية طاحنة، وحولت دجلة والفرات إلى نهرين من دم وأشلاء.
العراق كان بأشد الحاجة إلى مصالحة وطنية عامة، وكان بأمس الحاجة إلى قيادة وطنية راشدة تضع حداً للطائفية والثأر المذهبي وتطفىء نار التعصب، وتعمل على بناء العراق الواحد الموّحد.
وكانت الأولوية بصياغة قانون للعدالة الانتقالية الذي يخلص البلاد والعباد من سياسات الثأر والقتل، والقتل المضاد الذي لا ينتهي وضرورة الذهاب إلى منطق التعايش على مائدة الوطن الواحد، والاعتراف بالإختلاف والتعددية، بعيداً عن العنف وبعيداً عن لغة الحوار بالدم، وهذا ما فعله (نيلسون مانديلا) في جنوب افريقيا بعد ما يزيد على (300) عام من سياسة العبودية والتمييز العنصري على يد النظام الاستعماري السابق، وكان هذا هو الطريق لبناء دولة جنوب افريقيا الحديثة التي تضم السود والبيض في إطار وطني واحد، وهذا ما فعله قبل ذلك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في مكة عندما جاء اليها فاتحاً، وعفى عن كل ما جرى على يد قريش من حروب وقتل وتعذيب، ولم يعمد إلى سياسة الثأر ونبش تاريخ الصراع الدموي بين الأطراف المتصارعة وقال : «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، وقد استشهد مانديلا بفعل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من أجل تدشين مرحلة جديدة قائمة على التسامح والتعايش والاعتراف بحق الآخرين في التشاركية والوطنية.
نحن أمام مشهد عراقي جديد لن يستمر طويلاً، لأنه يمثل ردة فعل مساوية ومشابهة لما تم على أيدي المالكي وسجون وزارة الداخلية والقتل والتعذيب الممنهج القائم على أسس طائفية ومذهبية وعرقية، وهو المشهد نفسه الذي نشاهده في مصر بطريقة أخرى وبلون مشابه، مما يجعلنا نعيش في حلقة دموية مفرغة، لا نهاية لها ولا أفق، وربما يتكرر المشهد في ليبيا وأماكن أخرى عربية كثيرة.
في العالم العربي كله، نحن بحاجة إلى سياسات جديدة وثقافة جديدة، وبرامج جديدة تؤسس لمنطق المصالحة ومنطق البحث عن المظلة الوطنية الواحدة التي تجمع المختلفين وتستوعب التعددية السياسية والدينية والمذهبية والعرقية بخطاب العقل والحكمة، والتطلع إلى المستقبل وسياق تاريخ الصراع الدموي والبعد عن عقلية الثأر والإنتقام والتشفي، والبعد عن خطاب التشويه والشيطنة للمخالف، وهذا يحتاج إلى شخصيات وطنية كبيرة قادرة على تمثيل هذا الفهم وقادرة على الاستيعاب والتفاهم مع كل المكونات الاجتماعية بسلاسة.
(الدستور)