نحن بأمس الحاجة إلى ثورة حقيقية تتناول مجموعة المفاهيم الأساسية التي لها أثر بالغ في الحياة ومسيرتها وتوجهاتها، وتكاد تمس كل فرد يمارس العيش في عالمنا العربي والاسلامي، وخاصة على مستوى النخب وقادة العمل السياسي ورواد العمل الاصلاحي والتغييري.
أول هذه المفاهيم التي تحتاج إلى اعادة نظر تلك المتعلقة بالدين والتدين، وعلاقة الدين بالحياة، فالدين جاء ليصلح السوية البشرية والآدمية ويزوّد الانسان بمجموعة القيم التي تعلي شأن الحرية والكرامة وتعلي شأن العقل وقدرته على التفكير من أجل تسهيل الحياة والعيش بسعادة ونعيم حقيقي، بعيداً عن الشقاء والضنك والبؤس والعجز وقلة الحيلة، ومن أجل إرساء منظومة القيم الاجتماعية التي تجعل المجتمع البشري يستطيع التعايش الجماعي بالاحتكام إلى قواعد العدالة وميزان الحق، ويقترب من التسامح والاعتراف بالآخر وحقه بالحياة والحرية والمشاركة في مرافق الوطن وإدارة الدولة دون إقصاء أو استحواذ.
إن الجهل المطبق وسوء الفهم لمعنى الدين يجعل منه مادة للنزاع والخلاف والفرقة والقتل والاغتيال، وسيادة الشقاء والبؤس خلافاً لقوله تعالى الذي يوضح الغاية من إنزال الكتب و بعث الرسل في صدر سورة طه: «طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)» أما المفهوم الآخر الذي يحتاج إلى انقلاب وثورة هو ما يتعلق بالسلطة والمنصب العام، الذي أصبح مغنماً، وموقعاً للصراع والتنافس المحموم، وصبغ ذلك العمل السياسي على الجملة، حيث اصبح العمل الحزبي مصدراً للفرقة والاختلاف، والتنابز بالألقاب وسبباً لإطلاق الاشاعات واغتيال الشخصيات، وتشويه المخالف، وإثارة الأحقاد وتقطيع أواصر القربى، وربما يصل الأمر إلى الاقتتال المفضي إلى استباحة الدم وزهق الأرواح، ومرد ذلك كله إلى إذكاء روح الصراع على مواقع النفوذ والسلطة، مع أن السلطة ومواقع الإدارة العليا ما هي إلّا مواقع خدمة للجمهور، وليس سوى نوعاً من التكاليف الشاقة بالسهر على مصالح العامة وحل مشاكلهم والاستغناء عن الراحة وهدوء البال، ولو عدنا إلى مفهوم المسؤولية العامة على وجه الحقيقة لما وجدنا هذه الحدة في الصراع والتنافس المحموم المفضي إلى خلق حالة العداء التي نشاهدها ونحسها، حيث ينبغي أن لا يتعدى الأمر حدود المنافسة الشريفة على تقديم الخدمة، والتضحية والتجرد عند الوصول إلى الموقع العام، ويجب أن ينتقل السياسيون من حلبة الصراع إلى ميدان التنافس الشريف على خدمة الجمور.
المفهوم الثالث يتعلق بمعنى هيبة القائد وموقع القيادة، حيث تسلل إلى نفوس أصحاب المناصب القيادية عدوى « الهيبة» التي يراد اصباغها على الموقع من خلال التكبر والاستعلاء والقسوة في التعامل، والحدة في اتخاذ القرارات، سواء على مستوى الحكومات وأصحاب السلطة الرسمية، أو على صعيد الأحزاب والجماعات والعمل الشعبي التطوعي، مع أن الهيبة والمهابة تصنع بالرفق واللين وحسن التعامل والرحمة والعفو، والبدء بالنفس أولاً من حيث التزام القانون وتطبيق العدالة، والعفة والنزاهة والشفافية، ثم الأقرب فالأقرب قبل البدء بالخصوم والمخالفين، ومن هنا نفهم قوله تعالى في وصف انبيائه ورسله بكتابه العزيز: «وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا» حيث تمّ وصف النبي بأهم صفاته المتجليّة بالحنان والتزكية والبر والتقوى، كما وصف الله الرسول محمد صلى الله عليه وسلم : «وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ»، ولذلك لا تتأتى الهيبة بالغلظة والفظاظ والقسوة، كما يخطر على بال بعض من يعاني من عقدة نقصان هيبة القيادة.
المفهوم الرابع هو ذلك المتعلق بمعنى «السياسة» حيث أن معناها الأصيل يدور حول حسن التأني واستعمال الحكمة والذكاء والدهاء، والقدرة على تحصيل الأهداف بأقل التكاليف ورحم الله معاوية صاحب منهج الشعرة في العمل السياسي، التي لا يتم الاضطرار الى قطعها مهما كانت درجة الاختلاف والتباين في الاجتهاد والرأي، المشكلة الأكبر في هذا السياق أن مفهوم السياسة أصبح يدور على معاني الكذب والخداع والتضليل وسوء الخلق والافتراءات مما قلب معنى السياسة على عقب خلافاً لما استقر عليه معنى السياسة في موروثنا الحضاري العربي الاسلامي الذي يقوم على أن السياسة تعني حسن التدبير وتحقيق مصالح العباد، ويقول العرب :»سيد القوم خادمهم»، حيث يتم البعد عن معانى التسلط والاستبداد، ومعاني التكبر والفوقية والاستعلاء.
(الدستور)