«إدراك» .. دلالات حضارية الملكة رانيا العبد الله تنتصر للغة العربية
بلال حسن التل
11-06-2014 05:10 AM
قلنا في المقال السابق؛ إن مبادرات جلالة الملكة رانيا العبد الله، تتضمن الكثير من الدلالات والمضامين الحضارية، وقد جاءت منصة «إدراك» التي أطلقتها جلالتها، كأول منصة تعليمية الكترونية عربية مجانية لتؤكد ما قلناه، فقد حملت المنصة الكثير من الدلالات والمضامين الحضارية. لعل أولها الاسم الذي اختارته جلالتها للمنصة، وهو اسم «إدراك». والإدراك في اللغة العربية هو اللحاق بالشيء ووعيه وفهمه واستيعابه.
لذلك قالت العرب: «وسع مداركك أي زد معارفك وابن وعيك»، وهو بالضبط ما تريده جلالتها من إطلاقها لهذه المبادرة، حيث قالت في الكلمة التي ألقتها عند إطلاقها للمبادرة:»إن إطلاق «إدراك» يحمل رسالة تحثنا لإدراك ما فاتنا، وإدراك المستقبل الذي يليق بنا وبتاريخنا، وبرسالة بعثت لنا بدأت بإقرأ».
غير الاسم ودلالاته، لا بد من الوقوف مطولاً عند اعتماد اللغة العربية كلغة تَعلّم وتعليم لمنصة «إدراك». فهذا الانحياز من جلالتها للغة العربية يعني انحيازًا لفكر الأمة وثقافتها ووجودها، فعند علماء الاجتماع لا تزول الأمة إلا بزوال لغتها، كما ان اللغة هي فكر الأمة وثقافتها وأداة التعبير عنهما للتخاطب والتواصل، كما انها نظام اجتماعي متكامل.
وباعتماد اللغة العربية كلغة تعليم من خلال منصة «إدراك». فإن جلالتها تنتصر أيضًا للرأي القائل بأن اللغة العربية لغة حية، وانها لغة علم ومعرفة.. هكذا كانت، وهكذا يجب ان تعود، ومن ثم فإن الخلل والعيب والقصور ليس في اللغة، بل في أهلها، وهو قصور تؤسس منصة «إدراك» لمعالجته وتلافيه، من خلال اعتماد اللغة العربية لغة يتلقى بها الطلبة علوم العصر عبر منصة «إدراك»، وبذلك فإن هذه المنصة تكسر حاجز اللغة بين أبناء أمتنا وبين العلوم العصرية من جهة، وتؤسس لعودة اللغة العربية لدورها الحضاري، لغة علوم ومعارف من جهة أخرى، وبذلك فإن جلالتها تُسهم بالتأسيس لبناء نهضة عربية شاملة. فمن حقائق التاريخ، أنه لا يمكن لأمة ان تنهض نهضة علمية حقيقية ما لم يتلق أبناؤها العلوم والمعارف بلغتهم الأم، وخير دليل على ما نقول؛ أن الجامعات العربية بدأت بتخريج الطلاب منذ أكثر من مائة عام، ومع ذلك فإن بلادنا لم تشهد تطورًا علميًا حقيقيًا، والسبب في ذلك ان الجامعات العربية تكاد تنفرد من بين كل جامعات العالم بالتعليم بغير لغة بلادها، واقتصر دورها على تلقين الطلاب ما في كتب الآخرين بلغة هؤلاء الآخرين.
مما لم يمكن من توطين المعرفة باللغة العربية. بينما علمت شعوبٌ أخرى العلوم والمعارف بلغاتها القومية، بالرغم من قصور هذه اللغات، وضعف إمكانياتها، لذلك حققت قفزات نوعية في مجالات العلوم المختلفة. كما هو الحال لدى العدو الإسرائيلي الذي أحيا لغة ميتة وجعل منها لغة علوم ومعارف، وكما هي الحال عند الأتراك وغيرهم من شعوب العالم التي لا ترتفع لغاتها إلى مستوى ثراء وقدرة اللغة العربية وقدرتها على استيعاب العلوم والمعارف، والتجربة التاريخية تأكد ذلك. فقد كانت اللغة العربية في القرون الوسطى لغة العلوم كلها، وبفضل ترجمة هذه العلوم من اللغة العربية حدثت النهضة الغربية الحديثة.
وعند الترجمة لا بُدَّ من وقفة أخرى، عند الدلالات الحضارية لمنصة «إدراك» حيث أعلنت جلالة الملكة رانيا؛ انه من خلال منصة «إدراك» سيتم انتقاء الأفضل من الوطن العربي، وترجمة وتعريب الأفضل عالميًا إلى اللغة العربية. وهنا أيضًا تضع جلالتها مدماكًا آخر من مداميك التأسيس للنهضة العربية. فالترجمة كما هو معلوم عنصر هام من عناصر نهضة أية أمة. فبالترجمة عن اليونان، والرومان، والفرس نهض العرب والمسلمون، وبالترجمة عن العربية نهض الغربيون، وبالترجمة من شتى اللغات في العصر الحديث تقوم مختلف الأمم الحية بتدعيم نهضتها العلمية، ذلك ان الترجمة وسيلة توطين العلوم والمعارف لدى الأمم، ومن خلال توطين العلوم والمعارف، يُجرى توطين العقول المبدعة في بلادها، وهذا بُعد حضاري في منتهى الأهمية والخطورة، انتبهت إليه جلالة الملكة رانيامن خلال منصة «إدراك» فبادرت إلى العمل للمساهمة بسد هذه الثغرة التي يعاني منها العرب في العصر الحديث. فمن المعلوم ان من مشكلات التقدم والبحث العلمي في وطننا العربي ضعف حركة الترجمة إلى اللغة العربية خاصة في مجال العلوم التطبيقية، وهذا خلل ستسهم منصة «إدراك» في معالجته.
غير ان منصة «إدراك» لن تتوقف عند حدود الترجمة بل «ستعمل كما أعلنت جلالتها على إثراء التعليم عربيًا من خلال تطوير مساقات جديدة باللغة العربية، خصيصًا لهذا الغرض، حيث ستغطي هذه المساقات مجالات عديدة ومتنوعة، ويتم تطويرها بالتعاون مع عدد من أفضل الأكاديميين العرب، وبالشراكة مع أفضل الجامعات الإقليمية، وهذا يعني بأن «إدراك» ستفتح المجال أمام أبناء الأمة للابتكار والتميز.
والى جانب فتحها الباب للابتكار والتميز، وبموازاة الترجمة وأهميتها للنهوض وأثر ذلك حضاريًا، فقد أعلنت جلالتها أيضًا ان مبادرة «إدراك» ستعمل على تعزيز المحتوى العربي على الشبكة العنكبوتية، وهو فعل من شأنه خدمة اللغة العربية، من خلال تعريف العالم بها، ومن ثم تعريف أبناء الأمم والشعوب الأخرى بالعلماء والمفكرين والمبدعين العرب، وبإسهامات أمتنا في بناء الحضارة الإنسانية، وبدور اللغة العربية في إثراء هذه الحضارة.
خلاصة القول في هذه القضية: إن منصة «إدراك» تؤسس لنهوض حضاري علمي تكون اللغة العربية فيه مضمونًا وأداةً، ولو لم يكن لجلالة الملكة بإطلاقها لمنصة «إدراك» إلا هذا الفضل لكفاها.
(الرأي)