يقدِّم استمرار العدوان الهمجي الصهيوني على أهلنا في غزة رسالة واضحة بأنّ الرهان العربي على تحقيق فرص السلام بات في حكم الإعدام. فإسرائيل التي تقتل الأطفال الأبرياء والكهول والنساء وترتكب مجازر بربرية، وإسرائيل التي تستأنف بناء المستوطنات واغتيال حقوق الشعب الفلسطيني سياسياً وإنسانياً، وإسرائيل التي تضرب بعرض الحائط كل المبادئ الإنسانية والأخلاقية.. إسرائيل بهذه السياسات والممارسات ليست دولة تريد سلاماً مع الفلسطينيين، ولا تعبأ بـ"أصدقائها" العرب قبل أعدائها وخصومها. وأميركا بِمنْحِها المشروعية السياسية للجرائم الصهيونية، وتسترها على ذلك حتى إعلامياً، بعدم بث القنوات الأميركية للمجازر، وإعاقة الإدارة الأميركية لصدور قرار إدانة من مجلس الأمن لإسرائيل.. أميركا بـ(ذلك) ليست بدولة يمكن أن تمنح الحد الأدنى من الحياد المطلوب لـ"راعي السلام"، ولا هي تلك الدولة التي يمكن أن تضغط على قادة الكيان الصهيوني لتقديم الحدود الدنيا من حقوق الشعب الفلسطيني، لإقامة الدولة الفلسطينية وإنهاء صراع تاريخي يلتهم كل مقومات التنمية والنهوض في المنطقة، ويخلق حالة عامة من الاحتقان والغضب وخيبة الأمل.
لعل أبرز ما كشف عنه العدوان الإسرائيلي هو أزمة رهانات معسكر "السلام" العربي. فقد سُئل مسؤول رفيع خلال حديثه عن فرص السلام في المنطقة؛ فيما لو باءت تلك الفرص بالفشل وثبت أنّنا لن نصل إلى تسوية نهائية خلال الشهور القادمة، فما هي "البدائل الاستراتيجية" التي تفكر فيها الدول العربية؟ وكان واضحاً من جوابه أنّ الدول العربية لم تفكر حتى في بدائل استراتيجية أو بناء أوراق قوة في مقابل إسرائيل، وكأنّ الموقف العربي محكوم فقط بثنائية: مدى الاستجابة الإسرائيلية لمبادرات السلام أو الجمود والتوقف.
بالتأكيد لا نتوقع من الحكومات العربية الانتصارَ عسكرياً لغزة وللفلسطينيين، مع أنّ هذا "الخيار" في علم الموازين الاستراتيجية ممكن ومطروح، على الأقل على مستوى الدعم اللوجستي، ولا نسأل هنا عن جدوى البلايين التي أُنفقت وتُنفق على الجيوش العربية، والتي شكّلت مصدر تمويل للخزينة الأميركية جرّاء عمليات بيع السلاح! لكنّنا في المقابل، وفي حدود ما تحتمله مخيلة النظام العربي، نطالب بالبحث عن بدائل وخيارات سياسية واقتصادية وإعلامية يمكن من خلالها الوقوف معنوياً – على أقل تقدير- مع الشعب الفلسطيني المناضل.
ثمة العديد من البدائل والوسائل والأدوات السياسية والإعلامية التي يمكن فيها تخفيف العدوان الإسرائيلي على غزة، سواء من خلال اتخاذ خطوات رسمية أكثر حدة من مجرد تمرير فاشل لقرار في مجلس الأمن، ويمكن أن تصل هذه البدائل إلى تعليق المفاوضات والعلاقات الثنائية مع اسرائيل. أو القيام بأدوار دولية كبيرة في كشف العدوان الإسرائيلي وجرائمه والمطالبة بمحاكمة قضائية ودولية للمسؤولين الإسرائيليين عن المجازر الوحشية في غزة.
الخاسر الأول من جرائم إسرائيل في غزة ليس فقط أهلها الصابرون المحتسبون بل النظام الرسمي العربي، الذي تزداد عزلته عن الشارع وتتجذّر أزمة شرعيته السياسية، ما يعزز ويمنح الحركات المتطرفة والمتشددة "مشروعية" لدى الشباب العربي الغاضب والمحتقن والمحبط. فشبكة "القاعدة" هي محصلة الفراغ الرسمي العربي وعدم قدرة الحكومات على تقديم الحدّ الأدنى المطلوب في مواجهة التحديات الخارجية والداخلية الكبرى.
ومن يشاهد أكثر الفضائيات العربية، وفي مقدمتها الفضائية الأردنية والفلسطينية، تثور لديه التساؤلات فيما إذا كان المسؤولون عنها يشاهدون ما يحدث في غزة من جرائم وويلات وكوارث أم أنّهم خارج السياق كلياً؟! إلاّ إذا كان الإحجام الإعلامي الرسمي العربي عن كشف مذابح غزة هو أوّل بركات ميثاق القاهرة الإعلامي، وباكورة مخرجاته الحقيقية؟!
أمّا أهلنا الأبطال في غزة، فلا نقول لهم إلاّ لـ"غزة ربٌّ يحميها". فلا نملك لكم يا أهل غزة الشرفاء إلاّ الدعاء والتعاطف واصواتنا المبحوحة التي اعتادت على الصراخ عند كل مجزرة يرتكبها الاحتلال الغاشم على مرأى من العالم بأسره!
m.aburumman@alghad.jo
عن الغد.