كل شخص يؤمن بأهمية حوار الحضارات بين الغرب والعالم العربي مصاب بنكسة وإحباط هذه الأيام نتيجة الحملة الجديدة من التعبئة المتبادلة والتي أنتجها قرار مجموعة صحف دنمركية بإعادة نشر الرسوم المسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام والتي أشعلت مواجهة إعلامية وسياسية وشعبية هائلة قبل سنتين تقريبا. أثبتت هذه الأحداث مدى هشاشة بنيان "حوار الحضارات" في العالم ، وإذا كنا نشعر بالغضب من السلوك المتعجرف الذي تمارسه الصحف الدنمركية في موقعها الإسكندنافي البارد البعيد ، فإن المشكلة الحقيقية تكمن في قيام وزير الداخلية الألماني بمطالبة جميع الصحف الأوروبية بنشر هذه الرسومات ، وهو وزير في حكومة يفترض أن تكون إحدى أهم رعاة حوار الحضارات بين العرب والغرب.
آخر تواجد لي في منتدى حول حوار الحضارات كان في برلين قبل سنة وبتنظيم من وزارة الخارجية الألمانية ، حيث إستمعنا إلى الكثير من الكلام الطيب حول إحترام المشاعر الدينية وضرورة التسامح. معظم المشاركين في المؤتمر كانوا من المؤمنين بحقيقة حوار الحضارات ، وهذا الحوار امتد بكل أريحية خارج إطار غرف المؤتمر وفي الرحلات السياحية والعلاقات الشخصية. ولكن ما هي الفائدة التي يمكن أن نستقيها من هذا الحوار بين أشخاص قد يكونوا أصحاب تاثير إعلامي وسياسي في بلادهم ولكنهم ليسوا الأشخاص المستهدفين حقيقة؟
مشكلة هذه المواجهات المستمرة أنها مبنية على ما يعتقده الناس ويرون فيه العالم من زاويتهم وليس وجهة نظر الآخرين. الصحافة الدنمركية وبعض الصحف الأوروبية تقول بأنها إذا كانت تعيش في جو من "حرية التعبير" يتيح لها السخرية من نبي المسيحية وهو الدين الأساسي في أوروبا فلماذا لا يسمح لها بالسخرية من نبي الإسلام. ولكن هذه الصحف لا تريد أن تفهم أن طبيعة العاطفة الدينية عند المسلمين تحمل تصورا عن النبي المسلم تختلف عن طبيعة تصور الأوروبيين الماضون قدما في العلمانية حول المسيح.
لدي ثقة تامة بأن المسيحيين العرب لا يمكن أن يتفهموا سخرية الصحافة الأوروبية من الرموز الدينية المسيحية لأن تلك العاطفة الدينية القوية لا زالت موجودة لدى المجتمعات العربية وهذا ما يعجز الكثير من الأوروبيين عن فهمه. وإذا كان العالم العربي لا زال عاطفيا في ردود أفعاله وحتى في أفعاله ، فلماذا يستمر الإعلام الدنمركي في ارتكاب الخطأ نفسه مع أن منظومة التفكير العقلانية تفترض أن العقل يعرف من خلال التجربة ما هو الخطأ وما هو الصواب ، وأن الخطأ الكبير الذي تم ارتكابه من خلال نشر الرسوم المسيئة في المرة الأولى قد أحدث شرخا كبيرا في العلاقة بين المسلمين والغرب فلماذا التكرار؟
التبرير الذي تسوقه الحكومة الدنمركية ووسائل الإعلام حول أن هذا النشر يعتبر رد فعل على اكتشاف شبكة من ثلاثة أشخاص يريدون قتل الرسام الدنمركي الذي نسق عملية نشر الرسوم في المرة الأولى ليس منطقيا. بالرغم من رفضنا التام لأية محاولة قتل يقوم بها ثلة من المنفعلين وبعمل فردي معزول فإن هذا لا يعني الإساءة إلى مشاعر ملايين الناس بهذه الطريقة الفجة.
ومن جهة أخرى يشعر المسلمون بكثير من الغضب من المعايير المزدوجة في التعامل مع الرموز الدينية المسلمة واليهودية ، بل حتى الرموز السياسية اليهودية. إذا كان انتقاد إسرائيل في أوروبا يعتبر ممارسة عنصرية ولا سامية تحشد من أجل مقاومتها التشريعات والأنظمة والمواثيق والحملات فلماذا يكون الاستهزاء برموز الإسلام عملا يندرج تحت "حرية التعبير"؟
الهوة لا زالت شاسعة للأسف في القيم والمعايير ، وبالرغم من وجود ملايين الأشخاص المؤمنين بضرورة إحترام القيم المختلفة والتسامح وتقبل الرأي الآخر فإن جدول أعمال العلاقة بين الإسلام والغرب لا يزال محددا بقلة من المتطرفين والمتعصبين والذين خلقوا مناخا من الشك والصدام بات من الصعب على العقلاء احتواؤه.
batir@nets.jo
عن الدستور