«إدراك» .. دلالات حضارية .. الملكة رانيا العبد الله تقبض على مفتاح التغيير
بلال حسن التل
08-06-2014 06:39 PM
لا تخطئ العين المجردة حجم الدور المميز الذي تقوم به جلالة الملكة رانيا العبد الله في مسيرتنا الوطنية، من خلال ايلائها–ليس اهتمامها فحسب–بل وجهدها ووقتها لمجموعة من الملفات الحساسة التي تصب بمجملها في هدف إصلاح وتغيير وتطوير واقعنا نحو الأحسن. وفي مقدمة هذه الملفات، ملف التعليم، الذي هو أساس الإصلاح ومفتاحه في أي مجتمع، فبدون التعليم لا يمكن للإصلاح ان يتم، ولا للمجتمع ان يتغير نحو الأفضل.
ويزيد من تميز دور وجهد جلالة الملكة رانيا، انه في الزمن الذي يكتفي فيه المتشدقون بالإصلاح، المطالبون بالتغيير، المنادون بالتطوير، بالكلام النظري، فإن جلالتها تقرن القول بالعمل، فبالإضافة إلى الدور التثقيفي الذي تلعبه من خلال كلماتها ومحاضراتها، وورش العمل التي تشارك فيها، (وهذه كلها أدوات تعليم وتغيير تستخدمها جلالتها) فإن جلالتها تتجاوز ميدان الكلام على أهميته، خاصة إذا كان كلامًا علميًا مسؤولاً إلى ميدان العمل المسؤول، من خلال تحويلها القول إلى فعل، عبر سلسلة من المبادرات التي تأخذ طريقها إلى التنفيذ العملي الذي يؤثر في الناس، ويعمل على تغيير واقعهم.
والمتابع لمبادرات جلالتها يجد انها تحمل في ثناياها الكثير من الأبعاد الحضارية، خاصة في مجال التعليم، مثل مبادرة «مدرستي» ثم مبادرة «إدراك»، التي جاءت كخطوة متقدمة في جهد جلالتها لتطوير التعليم في بلادنا بهدف إحداث تغيير حقيقي فيها، كما أنها مبادرات تعكس إيمان جلالتها بأن تغيير واقع الناس لا يتم من خلال قرارات فوقية تفرض الإصلاح ولكن عبر الحوار معهم والحرص على تعليمهم». وهو ما ينسجم تمام الانسجام مع النهج الحقيقي الذي يقود إلى الإصلاح والتغيير كما تدل عليه التجربة البشرية عبر مختلف مراحل التاريخ التي أثبتت بالبرهان القاطع أن المجتمعات البشرية لا تتغير بالقرارات الفوقية، وآخر الأدلة على ذلك انهيار التجارب الاشتراكية، ليس في العالم العربي فقط، بل وفي حاضنتها الأولى، أعني الاتحاد السوفيتي، ودول أوروبا الشرقية التي حاولت تغيير المجتمعات عنوة وبقرارات فوقية، متناسية انه يجب ان تسبق القرارات، عملية تهيئة للناس من خلال إعادة بناء قناعاتهم، عبر عملية تعليمية تربوية تثقيفية، تبني قيماً ومفاهيمَ، وتتجسد سلوكاً لدى أبناء المجتمع المستهدف بالإصلاح، وهو ما تؤكده مراجعة التجربة التاريخية لمسيرة التغيير والإصلاح على وجه الأرض، خاصة سير أنبياء الله ورسله، الذين بعثوا لإصلاح المجتمعات البشرية كلما فسدت. وعلى وجه أخص سيرة خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي بُعث للبشرية كلها، موضحاً لها طريق صلاحها. فكم منا هم الذين تأملوا دلالات حكمة الله عز وجل عندما جعل أول الوحي على خاتم الأنبياء المبعوث للعالمين بآخر الرسالات التي فيها صلاح البشرية إلى يوم الدين حديثاً عن العلم بشقيه–القراءة والكتابة–بقوله تعالى: «أقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم» (العلق).
ألا تقول لنا هذه البداية للوحي الإلهي الذي نزل بدستور لتغيير واقع البشرية، وتزويدها بمنهج صلاحها إلى يوم الدين: إن التعليم هو أول خطوات تغيير واقع الناس، ومجتمعاتهم وإصلاحها، وأساس هذا التغيير؟ من هنا نفهم دلالة أن لا تكون أول مؤسسة أقامها رسول الله «ص» بعد بعثته مؤسسة عسكرية، أو اقتصادية، أو سياسية، بل مؤسسة تعليمية ممثلة بدار الأرقم بن أبي الأرقم، وهو توجيه منه عليه السلام إلى ان إصلاح الناس، وتغيير واقعهم، إنما يكون ببناء مداركهم، من خلال تعليمهم وتثقيفهم وبناء قناعاتهم الفكرية والوجدانية، بما يتوافق مع شروط الخلافة على الأرض وإعمارها. وقد أكد عليه السلام هذا التوجه عندما أرسل مصعب بن عمير بعد بيعة العقبة إلى يثرب ليعلم الناس ويبنى مداركهم، ويعيد صياغة مفاهيمهم من خلال التعليم الذي هيأ الأرضية لبناء أول دولة مدنية في التاريخ أقامها الرسول في يثرب في إشارة تقول: إنه مثلما ان التعليم هو شرط إصلاح واقع الناس وتغييره نحو الأفضل، فكذلك لا تقوم الدولة القوية صاحبة الرسالة، إلا بالتعليم الذي يبني الإدراك والمفاهيم.
إن المفاهيم هي أول ما ينتجه التعليم؛ ومن المعروف أن الإنسان يعيش وفق مفاهيمه. والتعليم هو المصدر الرئيس للقيم والمفاهيم، كما ان نوعية التعليم هي التي تحدد نوعية قيم ومفاهيم المجتمع.. من هنا نفهم إصرار بعض الدوائر على إفساد مناهج التعليم في بلادنا. ففساد التعليم يعني فساد المجتمع وتخلفه. ولعل كثرة الشكوى من فساد التعليم ومخرجاته في بلادنا خير دليل على ما نقول، فعلى الرغم من كثرة الجامعات وخريجيها إلا أن الأحوال تزداد سوءًا وتخلفاً في هذه البلاد، لأن التعليم فيها صار مجرد حشو للعقول بما لا ينفع. فالتعليم نوعان: أحدهما صالح يقود إلى الإعمار، وآخر فاسد يقود إلى الشقاء المادي والمعنوي، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى:}وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ{(سورة البقرة: 102). وهو بالضبط ما أشارت إليه جلالتها في كلمتها التي أطلقت بها مبادرة «إدراك» حيث قالت جلالتها:» للأسف العالم من حولنا ينطلق بسرعة فائقة نحو مستقبل فيه الفكرة والمعلومة المتخصصة والمهارات لبنات أساسية للإعمار والازدهار، وبالمقابل أصبح العالم العربي في صفوف العالم الخلفية بما يُعرف، وكيف ينتج، وماذا ينتج، وأثر ذلك على الأوضاع الاقتصادية، وما يوفر لأطفالنا وعلى شكل مستقبلنا».
مبادرات جلالة الملكة رانيا العبد الله المتتالية في ميدان تطوير التعليم الذي هو أساس أي بناء حضاري (وآخرها مبادرة «إدراك») تؤكد أن جلالتها قبضت على مفتاح التغيير الحقيقي ممثلاً بالتعليم، وظل علينا نحن ان نعين جلالتها بإثراء مبادرتها بالعلم النافع.. وقبل ذلك بالارتقاء إلى مستوى تحديات العصر الذي تُسهم مبادرة «إدراك» بتمهيد الطريق إليه.
(الرأي)