بين الوطنية والمكابرة ثمة كفر
عاطف الفراية
02-03-2008 02:00 AM
هناك ظاهرة عربية بامتياز نلحظها فيما يكتب من مقالات تأتينا عبر الشبكة العنكبوتية من العديد من المجموعات البريدية العربية.. والصحف الإليكترونية.. وما يأتي بعدها من ردود وتعليقات .. وهي (بتقديري) ظاهرة تعزية النفس بالأمل في الأمن والأمان من كافة النواحي.. الأمن الغذائي بل والرفاهي.. أمن مستقبل الأبناء.. أمن التقدم وحتى النصر على أعداء الداخل والخارج ..نشوة وطنية تعتري المعلقين يرتبط فيها إحساسهم الزائف الذي يمكن تلخيصه بعبارة من توقيعات خميس بن جمعة (ضحك النفس على نفسها) وإشعارها قسرا بأنه لا توجد مشكلة ما دام المواطن في ظل حكومته الرشيدة وتحت جناحيها.. فهي الضمانة لحل كل المشكلات.. بل إن الكتاب أنفسهم كثيرا ما يختمون مقالاتهم بمثل تلك العبارات.
والغريب أن معظم تلك التعليقات لا تنكر بؤس الحال.. فهي غالبا ما تبدأ بعبارة: صحيح.. ولكن.. الخ.. وما بين الاعتراف بأن الأوضاع متردية.. بل (ونطيحة وأكلها السبع) وبين تعزية النفس المتمثلة في ما يعقب ال (ولكن) ثمة كذب كثير جدا.. يلجأ فيه المعلق أو الكاتب إلى الغناء.. والغناء ليس دائما مؤشر فرح.. فهو غالبا غناء يشبه رقصة الديك الذبيح.. إلا أنه يعكس أحد أمرين أو كليهما.. الأول هو الإمساك بخط الرجعة من حيث الموقف السياسي.. والثاني حاجة نفسية عميقة لأي إحساس بأي أمل.. ومن أي نوع.. الغناء هنا ليس موسيقى طربية.. إنه حالة نشوة وطنية بالمعنى السلبي الهدام للوطنية.. كمثل القول الدائم الجريان على لسان القارئ المعلق : نحن أفضل حالا من الوضع الفلاني.. أو: رغم صحة ما ذكر تبقى مدينتنا أجمل المدن.. أو: ما دام الرئيس فلان موجودا فلا نحمل هما.. وهكذا.. إنه ذات الإحساس العربي الخالص.. الذي جعل البعض يخرج بمفهوم خاص لهزيمة حزيران المشؤومة.. حين خرج بنتيجة مفادها : ما دام الرّيس لم يقتل.. ولم يغادر كرسيه فنحن انتصرنا.. وما الهزيمة إلا مجرد انتكاسة .. وهكذا
مثل هذه الحالة النفسية الغريبة والفصامية لا تؤهل شعبا لأي تغيير نحو الأفضل.. لأنها تجعل أصحابها يتبنون الواقع دائما كأفضل الأحوال.. وليس بالإمكان أفضل مما كان.. ولو علمتم الغيب لاخترتم الواقع .. وما إلى ذلك من عبارات لا تعكس سوى الخنوع..
يضني الكاتب نفسه في إظهار العوار والخراب والفساد والجوع والبؤس وانتشار الجريمة والتردي السياسي .. وسرعان ما يقوم القاريء بعملية كفر لما قرأ ليصبح كافرا به.. والكفر كما تعلمون هو (تغطية الحقيقة) لذلك يسمي العرب غطاء الطنجرة (كفكيرا) ويسمي الله تعالى (الحرّاثين) كفارا.. (يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار) لأنهم (أي الحراثين) يكفرون حبوب البذار أي يغطونها.. وربما من هنا جاءت قدرتهم على (كفر حقيقة واقعهم بتغطيتها والرضى بما فوق الغطاء) ولا شأن (دلاليا) لمعنى هذه اللفظة بالكفر بالمفهوم العقائدي ـ أي عكس الإيمان ـ إلا من حيث أن العقيدة استعارتها للتعبير بها عن (تغطية الفطرة التي هي الإيمان )..
هنا يتلاحظ (أن صدمة الحقيقة تؤدي إلى الكفر بها).. ولا يزيدنا الكفر بها إلا إيمانا بأنها متغلغلة في الداخل والوجدان.. لكن النفس تعرف أنها لو صرحت لنفسها بأن هذه هي الحقيقة .. فإنها قد تتفجر. لذلك تبقى الأنفس الخانعة تبحث عن تلك العبارات من حيث هي (قناعات زائفة) بفتح القاف.. لتحولها إلى (قناعات) بكسرها.. لتصبح (أقنعة) تحفظ بها توازنها.
http://atefamal.maktoobblog.com/