لا ينبغي أن تطفو الأحقاد والضغائن بأنواعها وأسبابها على العمل الأكاديمي فتعكر صفوه، وتلوث مشربه، وتُذهِب بركته، وتفسد رونقه، فبيئة العمل الأكاديمي بيئة طاهرة نقية سليمة؛ لأنها تتعامل مع حقائق وعلوم مرتبطة بالوجود الإنساني. وهي بيئة تحكمها قوانين وأنظمة وتعليمات واضحة شفافة، وما وضعت تلك التشريعات إلا لتنهض بالعلم والمعرفة، وترقى بالطالب والمدرّس، وليعرف كلّ أكاديمي حدوده وحقوقه، وقبل ذلك واجباته ومسؤولياته ! فيأخذ الذي له، ويؤدي الذي عليه، أما أن يبحث عن الحقوق فقط، ويقرأ التشريعات ظاهرها وباطنها، ويقرأ تفسيراتها وتأويلاتها .. سطورها وما بين السطور ليبحث عن حق له ...
ويغمض عينيه عن واجباته المنصوص عليه بالبنط العريض .. فمسلك غير محمود ... وتفكير ضيق، وأفق محدود!
ويتأرجح موقف الأكاديميين والطلبة من هذه الأنظمة والتعليمات بين الاحترام والتقديس أو الانتقاص والتدنيس، فبعضهم يحترمها ويجعلها أساساً له في التعامل الأكاديمي حتى كأنها مقدسة، ومن المقولات التي كانت شائعة في جامعتنا " المحاضرة مقدسة" كفرض الصلاة ! .. وبعضهم لا يقيم لها شأناً، أو اعتباراً.
إنّ تلك التشريعات هي السبب - في الأعم الأغلب – لما يسود وما هو سائد من أحقاد تطفح بها قلوب الأكاديميين، وكذا طلبتهم، تصوّر أنك حرمت طالبا في مادة بسبب تجاوزه الحدّ المسموح به من الغياب فما يكون شعوره تجاهك؟ وتصوّر أنك ضبطت طالباً في مرحلة الماجستير متلبسا بالغش في الامتحان فأوقعت عليه ثلاث عقوبات مجتمعة: صفر في المادة، وإسقاط مواد الفصل، وحرمان من التسجيل في الفصل الذي يليه، فما شعوره تجاهك؟ أو تخيّل أنك اكتشفت في رسالة طالب "ماجستير" سرقات علمية أدّت إلى حرمانه من أي درجة علمية ..
فما يكون شعوره تجاهك إلا الحقد والكراهية والكيد وتعمّد الإساءة بأنواعها، ومن ضمنها الافتراء والكذب ... والقذف !
هذا حينما يتعامل عضو هيئة التدريس مع الطلبة في ضوء التعليمات التي أقرتها الجامعات والأعراف الأكاديمية منعاً للانفلات الأكاديمي!
أما حين يتعامل عضو هيئة التدريس مع إدارة القسم والكلية أو العكس فإنّ العمل الكيدي يتفاقم خطره ويتسع أثره ... وتعجب من قول أكاديمي" دخلت الإدارة وليس لي عدو، وخرجت منها وليس لي صديق" ! وهذه كارثة ومأساة تعبر عن وجه الخلل في هذا المجال من مجالات خدمة الوطن وأجياله، مأساة لأنّ أول من يتمرّد على التشريعات الأكاديمية هم الأكاديميون أنفسهم، وإياك ثم إياك أن ترقبهم في شيء، أو أن تتتبعهم في شيء؛ فيسخط عليك منهم القاصي والداني، والحميم القريب من الأصدقاء قبل البعيد ! لأنّ المجتمع المحلي فرض قيمه المختلة على واقع العمل الأكاديمي، فهي السائدة وهي الحاكمة ! إياك أن تطرح أيّاً من الأسئلة الآتية، فتقول لواحد منهم:
- لم تأخرت عن محاضرتك أو غبت عنها بلا سبب !
- لم وضعت درجة لطالب دون أن يقدّم امتحانا !
- لم تضع الدرجات على أسس عشائرية أو جهوية أو إقليمية !
- لم سرقت بحثا !
- لم زوّرت ورقة امتحان !
- لم سكت عن غش طالب ! أو سكت عن غيابه طول الفصل دون أن تحرمه !
- لم لم تصحح أوراق امتحانك ! أو لم دفعتها لغيرك يصححها لك!
- لمَ تستثمر المحاضرة في غير صالح المادة وأهدافها ! أو لم لم تلتزم بالمنهج الدراسي وتخرج عنه بعيداً !
لا يحبون أن تسأل سؤالاً مثل هذا! فكل يقوم بواجبه بالطريقة التي يريدها دون تشريعات حاكمة، ولا تعليمات ضابطة، يقولون: "لا تحمل السلم بالعرض"، ويقولون: "لا تكن عبيطاً" ... أو "اترك الحبل على غاربه"... و"دع الأمور تجري سبهللاً" ! وإن سألت وتابعت فسيحقدون عليك كل حقد، ويكيدون لك كل كيد! ويسيئون إليك كل إساءة !
يقع زميل في مأساة هذا الكيد، ليقصى بعيداً عن كل منصب، لا يصبو هو إليه، ولا ترنو عينه عليه، يتطوّع بعضهم لدى بعض الجهات، فيكتب به تقريراً أو جملة تقارير، ويعمل على إدراج وصف "سلفي متشدد" في ملفه ! وتقبل تلك الجهات – للأسف - هذا الوصف دون تثبت ! على الرغم من عدم مناسبة هذا الوصف لسلوكه وأفكاره !
ورئيس يجرجر إلى المحاكم .... وأستاذ يقوّل ما لم يقل ... فترفع عليه قضية في المحكمة ..!
وزميل يهدف إلى التقرّب من رئيس فيقوم بنقل ما يدور له فيقرّب..... وزميل ينتقد سياسة رئيس فيقصى ... وتصبح البيئة العلمية بيئة خصبة للكيد!
وزميل يكون متنفذاً ... يدرج في الأنظمة أو التعليمات ما يضيّق به على زملائه، فينتقص من حقوقهم أو يجعل الوصول إلى تلك الحقوق عسيراً !
وزميل يقدّم لجامعة لتفرغ علمي فيجد الأبواب موصدة في وجهه، لا يقبله أحد! بسبب إشاعات، أو همسات كيدية سرعان ما تحظى بالتصديق !
وزميل يعطي زميلا بحثا علمياً ليطلع عليه فينشره باسمه، دون علم زميله الذي كتبه !
وزميل يكتب في زميله سبعين صفحة يسيء بها إليه.. طفحت نفسه بكل حقد، ونسجت يداه كل بهتان !
وإداري يؤلب على زميله جهات إدارية أو أكاديمية، فيمنع ترقيته أو يؤجلها إلى سنة أو أكثر! ... ثم يعتذر له بعد ذلك !
وعميد يُحرق مكتبه الإداري ...!
فما هذا الكيد ! وهل التشريعات الأكاديمية تؤدي إلى كل هذا الكيد ! وهل يكمن الحل في إلغائها !
... نماذج الكيد وصوره وأساليبه يعرفها الأكاديميون أنفسهم ... ويعجّ بها واقع العمل الأكاديمي، وتتساءل بعد ذلك عن مكان العلم أو مكانته في نفوس الأكاديميين؟ وتتساءل عن العلم الذي يملأ القلوب ! وهل ثمة فسحة للعلم والبحث العلمي في تلك القلوب التي لا تجيد إلا فنّ الكيد! هل يستمر مسلسل الكيد لتبدأ نكسة الأمة من جامعاتها !
قديما قال علماؤنا" "طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله" لما أنّ العلم يهذب النفوس ويصلح القلوب، ويصحح السلوك ويقوّم الأخلاق! ويجعل الفرد باطنه كظاهره ... لم يكن لهم إلا وجه واحد، واليوم تتعدد الوجوه للشخص الواحد ! قلّ الناصح، وكثر الحاقد، وامتطى صهوة التوجيه من لا يحسن التوجيه ! وتسنم الأمر من ليس أهلاً له !
إنّ من شأن عقد دورات تهذّب النفوس، وتدرب على احترام الأنظمة والتعليمات، وترسّخ معنى المسؤولية وفقه المسؤولية في نفوس جميع العاملين في الجامعات من إداريين وأكاديميين ... من شأن عقد تلك الدروات أن يوسّع الصدور والقلوب لاحترام الأنظمة والتعليمات فيعرف كل ما له من حقوق، ويؤدي كل ما عليه من واجبات، لتنفرج بعدها قضية الكيد الأكاديمي وتتلاشى في ظلّ أنظمة وتعليمات سائدة، بل ينبغي أن تكون حاكمة ! فتصبح الشفافية سلوك الأكاديميين إداريين وتدريسيين!