لم نكن نعرف وقتها أن الأضواء التي ننادي لإطفائها ستطفئ نور مرحلة طويلة من التاريخ العربي . كنا صغاراً متطوعين في الدفاع المدني، نتجول في الحارات لنقوم بواجبنا في معركة « تحرير فلسطين «! كان جرح فلسطين لا يزال طرياً، وطعم البرتقال في أفواه أهلنا عالقاً ويافا ترتدي نفس ثيابها، حيفا مكانها تطل على البحر وعكا جارة القمر، اللد والرملة تحكي قصص الحضارات المنثورة في البيارات والشجر يبدل ورقه ولا يغير جذره .
فلسطين المغتصبة، الوطن الجريح، الصهاينة، الكيان الصهيوني، العدو، كانت هذه هي المفردات التي تعلمناها وعلمناها . وكان دحر العدو على مرمى معركة!، وليتها لم تكن المعركة! في خمسة ايام انهارت جيوش واحتلت ارض عربية من خمس دول بدلا من تحرير فلسطين من المحتل . كنا نستمع الى البيانات العسكرية العربية ونحن نركض في الشوارع وفي ذهننا اننا سنواصل الركض حتى البحر لنغتسل ونغسل عار احتلال فلسطين!.
لم يكن ذنب احمد سعيد ولا عبد الناصر اننا سنُلقي اليهود في البحر..بل ذنب الخونة وذاك المشير الذي كان يسهر مع الغانيات ويسكر في عز الحرب .هم دائما الخونة الذين يُسقطون حكاما وأوطانا وأمما . يعرفهم التاريخ جيداً ويعرفهم العدو اكثر فهو سيدهم وهم عبيده. هم انفسهم الذين سلموا بغداد للمحتل الاميركي .
في 5 حزيران كانت الأمّة في ذروة عنفوانها وقوة شبابها ولم يكن في خاطر أحد أن الجندي العربي سيقع ضحية خيانة متعمدة، وأن ما حدث سيفتح بوابات العواصم العربية لليهود، وأن الكيان سندعوه دولة، والعدو شريك سلام وصديق، وأن الدار ستصبح وكراً للسفلة القادمين من شتات الأرض. لم يكن في الحسابات أن العرب سيدخلون في نفق التسوية والسلام المبتذل . كان لاءات قمة الخرطوم : لا صلح لا استسلام لا اعتراف باسرائيل تتحول تدريجيا الى مهزلة . اعترفنا ولم تعترف اسرائيل بمبادراتنا العربية. وقعنا على معاهدات السلام ولم نر الا الحروب المتوالية .تنازلنا عن الارض لتبتلع المستعمرات كل الارض .
الارض مقابل السلام تراجعنا الى السلام مقابل السلام ثم تراجعنا الى لاسلام ولا ارض « وليشرب العرب البحر «والبحر لاسرائيل اذن موتوا عطشى يا عرب . عطشى ارض وسلام و...كرامة !
ضمنت اسرائيل ان لا سلاح عربياً في الافق بل في المخازن المهترئة، ولماذا لا تبدأ الصهيونية مرحلة جديدة من مشروعها نحو اسرائيل الكبرى « من النيل الى الفرات «! ففلسطين لم تعد قضية العرب المركزية، والعرب استرخوا في ظل مقولة نرضى بما يرضى به الفلسطينيون، والوحدة العربية صارت غولا وعنقاء وخلاً وفياً، ومطلباً محليا داخل كل دولة عربية بعد ان تشتت الشعوب داخل دولها وساد الفساد والخراب والطبقية و « كل من ايده الو « . اما كارثة الكوارث فهي هذا السقوط الذي سمّوه ربيعا عربيا وما هو الا ربيعٌ صهيونيٌّ بامتياز !!
(الدستور)