سبعة أيام وهو يُسِّبح ويحوْقل، طوال الطريق، لا يستمع إلا للقرآن، وعند كل محطة عبر طرقات ارتحالنا يتوقَّف للصلاة، وعلامتها تشعُ على جبينه، (سيماهم في وجوههم من أثر السجود)!.
كنت يومها في زيارة رسمية لبلد عربي، والسائق المخصص لي، مع سيارته من بلد عربي، يسرف في الإشارات حول تديُّنه المفرط، من عطره الغريب، مرورا بذقنه، وصولا الى كلامه ومفرداته ولباسه، وإذ كان معي طوال اسبوع، فقد كانت فرصة لمعرفته عن قرب.
عربي هو، يعمل في بلد خليجي، والكلام يجرُّ كلاما، وفي اليوم الأخير، تكتشف بالصدفة أنه يقاطع والده، يُعاديه، لا يريد مصافحته ولا الاقتراب منه، و والده المغترب مثله في ذات البلد، موصوف على لسانه، بأنه رجل صعب المراس، ذو قسوة، يريد ولا يريد، يشترط و يطلب من ابنه طلبات، لا يحتملها من باب لا تصادق فلانا، ولا تقترب من فلان.
طوال الطريق وأنا أحاول إقناعه بأن كلَّ تديُّنه منقوص، والله أعلم طبعا، فالمآخذ على والده، غير كافية لأن يقاطع والده، فيكشف أن والده طلق أمَّه وهو صغير، وتزوج بأخرى وارتحل الى هذا البلد الخليجي للعمل، ودارت الأيام دورتها ليجلب ابنه بعد أن شبَّ وكبُر الى ذات البلد للعمل، ويضيف أنه لا يشعر بعاطفة تجاه والده، ولا يحبه، فلم يعرفه منذ طفولته، ولم يتذوق حنانه، على الرغم من أنه جلبه منذ أربع سنوات لوظيفة سائق.
يفيض من قلبه فتستمع الى كل حكايته بصبر بالغ، كل مشكلته مع والده أن الأخير صعب الطباع، والشاب لا يحتمل طباعه، ولا يريد أن يخضع لخاطر والده بشأن قضايا عادية جدا.
أخوض معه نقاشا، أن كلَّ صلاته وعبادته لا تكتمل بهذه القطيعة مع والده، في بلد واحد، وان كل مآخذه على والده لا شرعية لها، فالنص القرآني اشار مرارا الى عدم عقوق الوالدين، ولم يستثن إلا عدم إطاعتهما بالشرك، فوق قصة نبي الله إبراهيم الذي هدَّده والده بالقتل والطرد، فاستغفر له، على الرغم من كفر والده، و وفَّى بوعد الاستغفار له.
ما يحزنك حقا، ما تراه أحيانا، فالأبُ أو الأمُّ يربيان، والابن أو الابنة يشبَّان، وتصير حكمتهما المتأخرة سببا بإهانة أحد الوالدين، فتسمع دوما كلاما ينتقد احد الوالدين، أو لوما على أنه فعل كذا، ولم يفعل كذا، وأن الابن الفصيح لو كان في مكان والده لفعل كذا، ولاستثمر مالا، أو أشترى أرضا، والقصص لا نهاية لها.
المفارقة هنا أن الأبناء المتفلسفين هنا، لا يُنجزون شيئا بالمقابل، لا لأنفسهم، ولا لأولادهم، وسيذوقون من ذات الكأس المرِّ الذي سكبوه لأهليهم.
«لا تقل لهما أفٍّ» الى هذا الدرجة يأتي المنع والتحريم، و»الأفُّ»الزفرة الساخنة التي تخرج من الصدر في وجه أحد الوالدين، فما بالنا بمن يمارس النميمة ضد والده و والدته، أو الذي ترتسم على وجهه آيات النفور في وجه أحد الوالدين، خصوصا، إذ كبر أحدهما، ولم يعد الابن قادرا ولا مستعدا للاستماع لحكايات الأب المكررة، او تلك القديمة، ولا يحتمل تعب الأب أو الأم، باعتبار أن كل هذا مكلف عليه نفسيا، ولا يُطيقه سمعه؟!.
إذ يقول رب العزة «وقل ربِّ ارحمهما كما ربَّياني صغيرا»، ففي الكلمات سر عظيم، دلالته أن الآباء والأمهات حينما يكبرون يعودون اطفالا، في طلباتهم وعواطفهم وتطلعاتهم وحاجتهم للرعاية والاهتمام والدلال، قياسا على التذكير بما كنت أنت عليه في طفولتك.
أحدهم يقول إنه لا مال معي لأضعه بين يدي والدي أو والدتي، وأعرف ميسوراً ينثر المال في طريق والديه، لكنه لا يزورهما إلا مرة في الأسبوع، وشقيقه موظف مفلس، يزور والديه يوميا، ويعطف عليهما بالكلام والرعاية، فتتنزل دعوات الرضا عليه، أضعاف الرضا على من يدفع المال، فالقصة ايضا، ليست قصة مال فحسب، إنه رد الإحسان، بالمعاملة قبل المال.
كثرة أو قلة، ُتسمعك كلاما جميلا عن الأخلاق والقيم والدِّين، فإذا فتحت سجلاتهم وجدتهم قد أهانوا آباءهم وأمهاتهم بكلمة أو فِعلة، وعليهم انتظار السداد.
ذات مرة في مدينة خرج الجيران على صوت جار عجوز يبكي ويتألم، وقد رماه أولاده السكارى قرب حاوية نفايات الحيِّ، فجن جنونهم، وأرادوا أخذه الى بيت أي جار، فلم يقبل وكان يبكي قائلا: اتركوني هنا، فقبل خمسين عاما، طردت والدي من بيتي في قريتنا، وحملته وهو مريض ورميته فوق «مزبلة القرية» و وجودي عند حاوية النفايات جزاء طبيعي.
النظرة المهينة، الكلمة القاسية، البخل في المال، قلة الاهتمام، إطالة اللسان، وسواس القلب، المن والأذى بما تقدم، كل هذه طرق للهلاك، والوالدان مفاتيح رحمة، فلا نكسر أحدهما بهمسات قلوبنا، أو بنقد لاذع، أو بتقصير يتغطَّى بالانشغال وقلة المال.
والداك، أو أحدهما، عندك اليوم، وانت مُهمل بحقهما.غدا قد لا تجد أحدهما، فتندم طوال عمرك وتلطم وجهك أنك لم ترضهما، فيحرقك اللوم، ولا تنفعك الحسرة لحظتها.
(الدستور)