كانت النكتة السياسية الساخنة من أسلحة الحرب الباردة، وأذكر منها تلك التي تتحدث عن حوار جرى بين أمريكي وروسي فقد قال الأمريكي أنه يستطيع إبداء رأيه في ساكني البيت الأبيض ويملك كمواطن وناخب ودافع ضرائب حق النقد فأجابه الروسي أنه يستطيع ذلك، فهو يقول في موسكو ما يشاء عن البيت الأبيض، وقد تكون هذه النكتة ثقيلة الظل لأنها مصنوعة بعناية أيديولوجية، لكن ما يهمنا هو دلالاتها، ففي عالمنا العربي تستطيع أن تقول في أية عاصمة ما تشاء عن عشرين عاصمة أخرى، فالحديث دائماً عن هناك وليس عن هنا وعن الآخر وليس عن الذات، لهذا تراكم لدى العرب موروث ديمقراطي من طراز فريد وأصبحت حرية التعبير هي أن تقول ما تريد عن بلد آخر ورئيس آخر وسياسة أخرى، لهذا أبطل التاريخ مفاعيل هذا النقد الأعور.
أما النصف الآخر من الديمقراطية الداجنة فهو أن تقول ما تشاء عن العهد السابق أو البائد أو المخلوع، لأنه باختصار لم يعد قائماً، لهذا أصبحت الموعظة أن تقول كلمة باطل في غياب سلطان جائر وليس العكس. إنها فلسفة جُحا الشهيرة التي تنتهي عند سريره.. لكنه لم يسلم من هذه الاستراتيجية الخرقاء، بل ذهب ضحيتها.
ولو رصدنا ما كتب عن نظم أسقطت أو ساسة رحلوا باللغة العربية لحصلنا على أطنان من الورق، لأن الموتى أو المخلوعين عاجزون عن الدفاع عن أنفسهم، ومن كانوا يعيشون في ظلالهم ويسبحون بحمدهم قلبوا ظهر المحبة بحثاً عن ولي نعمة جديد.
بالطبع ليست شجاعة أن تقول ما تريد عن البيت الأبيض وأنت واقف في ساحة الكرملين، والعكس صحيح أيضاً، وحرية التعبير التي تزرعها الولايات المتحدة افتضحتها عدة حروب بدءاً من الحرب الفيتنامية حتى احتلال العراق، حيث لم يشذ عن القاعدة العسكرية والأمنية أحد، إلا إذا قرر أن يغرد خارج السرب بمفرده حتى يبح صوته.
فمن شجبوا الحروب التي شنتها أمريكا بدءاً من جيري روبين وجماعة اليينر حتى تشومسكي كان شجبهم أخلاقياً ورمزياً لكنه ممنوع من الصرف، فالحرية في عاصمة البنتاغون وليس عاصمة والت ويتمان هي أن تقول ما تشاء شرط أن تترك الجنرال يفعل ما يشاء.
ولو كان لدى العرب ثقافة مضادة لهذه الثقافة الداجنة لتداركوا الكثير من الكوارث القومية، لكن ما كان يحدث دائماً هو انتظار الجائر حتى يغيب ثم البدء بشحذ السكاكين لاقتسام جثته، لهذا لا قيمة لنقد في غياب المنقود لأنه لن يستفيد منه وعندئذ يدرج في خانة النميمة السياسية وليس في خانة النقد.
فهل يكفي ما حدث حتى ا
(الدستور)