منذ بداية العَشْريّة الثانية من هذا القرن، والعالم العربي يعيش زَمَنَ حزنْ مرير، أعاد إلينا مصائب داحس والغبراء وحرب البسوس وقتالات قيس ويمن، حتى بتنا نهباً لأُناس يبيعوننا في أسواق النخّاسة، الزقّ بدينار..! وأصبحنا نهرول في خدمة أسياد صنعناهم بأيدينا، وآمنّا بهم بكل وجداننا.. ولنرضيهم رحنا نشرب الأنخاب بجماجم بعضنا بعضاً، ورفعنا إشارات النصر بأصابع كاذبة مرتجفة، أكلها الخوف والتمزّق، وأهرتها الجراح الناغرة، وإذا ما قَتَل أحدُنا أخاه، راح يقطع رأسه ويدور راقصاً حول جثته ويخلع قلبه من صدره ويلوكه منتشياً.
سقطنا في حُفَر الحقد، وأستدعينا زُمُراً من هَمَج الدنيا لتساعدنا على تدمير كل ما بناه أباؤنا وأجدادنا، فغدا المواطن العربي عبداً لإرادات المارقين، وقِنّاً لشهوة هنا أو شهوة هناك، تقتلنا الفرقة وتملأ جنباتنا الفرقة، ويسيطر علينا مشهد التجزئة والاختلاف.
تونس البلد الوّلادة للمفكرين والعلماء ترسِفُ في أغلال الاختلاف السياسي والعقائدي، أطرافٌ تتناحر على السلطة، وتتصارع على المناصب، والشعب هناك حائر بين تراث تليد وبين ركائز تبحث عن مكتسبات هاربة، والجمع في تونس متردد ومشبوه، ورئيسه يصفه "بالجهلة" .
أما عن ليبيا فحدّث ولا حرج، فلا هي مستفيدة من ثرواتها، ولا هي مكتفية أمنيّاً أو عسكرياً، تدمير يحيط بالدولة فيأخذها من سقوط المؤسسات إلى دمار هذه المؤسسات، والموت يسيطر على الناس، بعد أن استدعى بعضهم الأجنبي ليتقل البعض الآخر. ومما يثير القرف والاشمئزاز أنْ تحالف فريق من العرب مع تجار الحروب والفاسدين، فنصبوا منصّات الرعب وسلب الأرواح لأهل ليبيا في كل مكان، فتدمّر البناء كلّه مادياً ومعنوياً وفكرياً وثقافياً وحضارياً. وها هي ليبيا اليوم تعيش زمناً رديئاً، سمّاه بعضنا ، جهلاً وزوراً وخيانة، ربيعاً. وهنا تكن مصيبة المصائب، التي من مفرداتها اليوم أننا نشهد في ليبيا حكومتين وبرلماناًً منقسماً إلى شطرين.
وفي مصر بتنا محكومين للحجوم المتوّرمة، حجم التظاهر وحجم الفوضى وحجم الاحتراب. فبعد أن كان القاموس المصري مملوءاً بالحب واللطف، أصبحت معظم مفرداته تنتهي بالموت، دون أن يرف لأحد جفن. فمصر التي كانت أم الدنيا أصبحت أماً ثكلى. ومصر التي كانت زعيمة العرب أصبحت تنتظر أنْ يناصرها ويحنو عليها أصغر العرب. وعاد الجيش هو صاحب الأمر والنهي. وتساقطت القامات العظمى التي كانت ترسم كل يوم نظرية سياسية ومنهجاً فكريّاً. مصر التي بنى أوائلها أهرامات من الحضارة، لم يعد يزورها إلا بعض المغامرين الذين يذهبون إلى الأطراف، بعد أنْ أبقوا أمتعتهم محزومة. ووصل التهديد إلى النيل الذي كان يتمطّى بكل عظمة على صدر المحروسة، لا يمنعه من الزرقة والصفاء إلا هطول المزيد من الأمطار.
واليمن السعيد تحوّل إلى يمن تعيس، تُعَشعِشُ فيه قوى التهوّر والتطرّف. وراح اليمني يُمضي يومه وهو يشد أصابعه على مقبض "جنبيّته"، وعلى زناد بندقيته، يترصد أخاه ليهدد حياته وأمنه. وتدافعت قوى إقليمية وعالمية لتتحارب على أرضه يقودها القهر والموت والتدمير.
وعلى أرض سورية تقوم حرب لا يُعْرف لها نهاية، ولا يُفْهم لها سبب. ولم تبق جهة في الدنيا إلا وبعثت بغثِّها إلى أرض سوريا، وبلغ الأمر أن يودع السوري أهله إنْ خرج لجلب عيشه، إذ لا يأمن أن يعود إليهم حياً. الدمار في كل مكان، وملك الموت يتخطف الأرواح، وأصبحت حرائر سوريا إما لاجئات في بلادهن، وإما مشتتات في أرض الله. ولم تبق قوة إقليمية أو عالمية أيضاً إلا وشاركت في قتل السوريين، بينما الغرباء لا يتوانون عن اتهام النظام ورجالاته أنهم يقتلون شعبهم، وأنهم (شذاذ الآفاق) قد جاؤوا لحماية الناس من قهر قادتهم وزعمائهم، والله وحده الذي يعلم إلى أين البلد سائرة .
وقبل ذلك كله أصبح العراق على البوابة الشرقية، بلداً مملؤاً بالدمار والجثث وأصبح الفرات ودجلة حائرين من النهر الثالث الأحمر الذي تدفقت الدماء فيه. وبات التهديد بالتقسيم مصلتاً على رقاب البشر، بعد أن تجمعت الاثنتان وثلاثون دولة لتحطيمه، فأعادته مئات السنين إلى الوراء، وغدا قبر حمورابي مكبّاً للنفايات، والأضرحة الشريفة هدفاً للمدافع والبنادق الغريبة. ولا تكاد تمر ساعة أو حتى دقيقة إلا وتسمع تفجيراً أو صوت إطلاق نار، وبعدها ترى الجنازات تتقاطر الواحدة تلو الأخرى.
وفي لبنان وصلت التراجيديا إلى أن يقوم مجلس الأمن الدول بإصدار بيان رسمي يدعو فيه إلى ضرورة اختيار رئيس للبلاد "دون تأخير"، فهل هناك انحطاط أو سقوط أو مهزلة أكثر من هذا الانهيار في مفهوم السيادة والاستقلال والدولة والمؤسسة الرسمية، بعد أن فقدت السلطة في لبنان مقاليد الحكم، وأصبحت نهباً للسارقين والمارقين المتربصين بالبلد كرامةً وهيبةً ووجوداً.
أما فلسطين فقد غدت، منذ زمن طويل، نهباً للصهاينة يسومونها سوء العذاب، وينحرونها كل يوم مئة مرّة، ويمرّغون وجهها بالتراب تحت أقدام غانياتهم، ونحن "العرب" نقضي أيامنا على أدراج المنابر ندعو عليهم بالويل والثبور، وأن الله سيرينا بهم يوماً أسوداً. وما أن ننزل حتى ننسى ما قلنا وربما بعنا ما قلنا تحت وطأة حوافر الشيطان. وهل تعلمون أن الصلاة في المسجد الأقصى لم تعد مسموحة إلا بشروط وتعاليم بني صهيون، إلى هذا الانحطاط وصلنا.
كل هذا يحدث، ونحن لا نزال نهتف بشعارات الربيع العربي والتحوّل الديمقراطي، بينما الواقع أننا نعيش الزمن الرديء، زمن الحزن، زمن الموت والاضطراب، زمن الضياع وزمن الخوف. وبعد ذلك كلّه استحلفكم بالله أين هو الربيع الذي يتحدثون عنه؟.