اثنان يتنافسان على أكبر مساحة من الحرية هما الجاهل واليائس، فالأول كما وصفه «برتراند رسل» يجهل أنه يجهل لهذا لا يشعر بأي نقصان في المعرفة، ولديه الاستعداد أن يتحدث بحرية عن أكثر القضايا تعقيداً، أما اليائس فهو لا يُقيم وزناً لأي شيء لأن علاقته بالعالم من حوله انتحارية، ولأن عواطفه معطَّلة وجلده «متََمْسِح»، فهو ينظر إلى كل الكائنات باستخفاف وأحياناً بعداء وكراهية، لأنه يكره نفسه أولاً، وفاقد الشيء لا يعطيه.
واليأس حالة تتجاوز الأفراد أحياناً إلى الجماعات البشرية، وحين تقع فريسة هذا اليأس لا تهمها سمعتها أو أي شيء يمن أن توصف به، لأنها أدارت ظهرها للعالم وبدأت تأكل نفسها!
اليائس تستبد به السخرية من كل شيء ويتوهم أن ما بلغه من الإحباط والشلل النفسي هو أيضاً ما بلغه الآخرون وقد يتفاقم لديه الوهم فيظن أن الآخرين سيعودون إليه وإلى حكمته الخرقاء بعد أن يرتطموا بالجدار الذي ارتطم به.
وحين يتحالف الجهل مع اليأس فإن الكارثة تصبح مزدوجة ومحتَّمة، وعندئذ لا ينفع الوعظ والحوار والأفضل هو الانسحاب، لأن من يخوض معركة كهذه لا بد أن يكون خاسراً في النهاية. لهذا قيل إن العدو العاقل أسلم ألف مرة من الصديق الجاهل.
وفي حياتنا العربية المهددة بالزحف الأمِّي على كل الأصعدة وليس بالزحف الجليدي أو الصحراوي قد يأتي يوم يستحيل فيه الحوار، ويصبح المونولوج هو السائد، والذي لا بد أن ينتهي إلى هذيان.
إن المعرفة قيد، وكذلك الأمل، فالإنسان الذي يستطيع أن يتخيل ويحلم يحرص على مجال حيوي لتحقيق أحلامه، ويراكم انتصاراته الصغرى، والإنسان العارف يدرك كم هو جاهل وتلك فضيلته التي تقيه من الغرور والانكفاء على الذات وبالتالي الاستنقاع!
وقوة اليائس ليست ذاتية، بل مصدرها اليأس نفسه، وغياب المنطق عن أية حسابات وقد تكون ضربته الأخيرة هي ما يسمى في أدبياتنا الشعبية ضربة «المقفي».
ويبدو أن الجاهل لا يعي حالته إلا في مجتمعات تذكره في كل لحظة بما ينقصه، لكنه حين يعيش حياة يغمرها التواطئ ويشرب الناس كلهم من نهر الجنون لا يشعر بأي خجل أو نقصان.
ما نخشاه هو هذا التحالف الشيطاني بين اليأس والجهل، بحيث يصبح الاستدراك متعذراً، وأشبه بإعادة الحليب المسكوب إلى الزجاجة التي كسرت! والمرضى لا يكتبون تقارير علمية عن حالاتهم، لكن التخلف في أقصى مراحله يتيح ذلك، عندئذ علينا أن ننتظر العسل من الذباب!
(الدستور)