ما أن صعد الفريق عبدالفتاح السيسي عرش مصر حتى دخل أمس «الزعيم» حسني مبارك قفص المحكمة باكيا بلباس السجن الأزرق ، والى جانب إبنيه علاء وجمال ، فيما سبقت أحكام ضد رهط كبير من المسؤولين الفاسدين في إدارته، بعد أن تغلغل التجار ورجال الأعمال الى طبقة الحكم وأفسدوا رجال المنظومة السياسية المقربة ، قبل أن يستغلوهم لتحقيق أكبر قدر ممكن من العبث بمقدرات مصر وتحويل الإقتصاد المصري الى إقطاع يتبع إرادتهم ، فربح التجار الفاسدون ورجال الأعمال وعائلاتهم وسكرتيراتهم ومحاسيبهم ، وخسرت مصر ، وسقط مبارك سقطة تثير الشفقة وخسرتاريخه ولم تنفعه حتى الشفقة لشخص الزعيم.
مبارك قائد القوات الجوية وشارك في المعارك ضد إسرائيل وتسلسل في هرم السلطة المصرية نائبا للرئيس السادات، أن يصبح رئيسا لمصر ، حيث أمضى السنوات الثمان الأولى من حكمه متمتعا بشروط القيادة القوية لأكبر بلد عربي يعاني من أكبر ظروف الفقر و الإنفجارالسكاني، قبل أن تتسلل الى حضن مبارك مرحلة الإنهيار الصامت وذلك بفعل تغلب العواطف على العقل في تعامله مع فكرة الحكم أولا ثم مع أبنائه ومساعديه في الحكم ومع أنصاره في الطبقة السياسية وكراهيته لخصومه.
لذلك لو أخذنا شخص الرئيس مبارك كمثال قيادي ، سنرى كيف تراجعت مصر خلال العقدين الأخيرين سياسيا واقتصاديا واجتماعيا بسبب سلطة النخبة الأمنية والعسكرية على جميع مناحي الحياة في مصر التي انفجرت كما رأيناها ، وذلك ما دعم تراجع القوة التي كان يتمتع بها مبارك كرئيس لجميع المصريين ، وكقائد لأكبر الجيوش العربية ، و كزعيم عربي له الباع الطولى في القضايا العربية الهامة خصوصا ما يتعلق بالنزاع مع إسرائيل والنفوذ الإيراني على سواحل الخليج العربي.
الغرور الذي أصاب مبارك في السنوات الأخيرة لم يكن مرضا جينيا ، بل هو عدوى نقلها له أركان طاولته المستفيدين من بقائه رئيسا وبقائهم في لائحة المقربين منه ، فقد أقنعوه بأن حكمه يمكن أن يتحول الى جمهورية ملكية أخيرا ليورثها لأبنائه ، ولم يكن الأبناء ليعترضوا على ذلك ، فقد قاد جمال حملات واسعة من خلال الحزب الحاكم ، للترويج لفكرة صعوده من خلال تعديلات دستورية ودعم رجاله في مجلس الشعب الذين يستطيع أن يختارهم كيفما يشاء ، وغفل عن مؤسسة الجيش التي تراقب بصمت الطفل المدلل كيف سيتحول الى وحش شيئا فشيئا لينقض على عرين مصر.
إن تاريخ الإنجازات التي من الممكن أن يستغرق مبارك في سردها أياما طويلة عبر خطاب متواصل ، قيضته قوة العواطف التي تغلبت على عقل الرئيس وحكمته وخضرمته ، فكان الإبن والرفقاء الخبثاء وأصحاب المصالح المالية سببا في حرفه عن مساره نهو نهاية مشرفة له لا لمصر ، خصوصا حينما أصابه المرض فجأة ، وبدل أن يدعم تسريع لعملية انتقال السلطة لأفضل شخص يقود مصر الكبرى ، دعمته أحلام المملكة لتوريث إبنه فوقع في الفخ وثارت الدنيا عليه ، وأصبح اليوم سجينا لا يتذكره أحد ، ضاعت كل إنجازات مرحلته لصالح الشتائم والنكران والنسيان.
لقد صنفته مجلة «فورن بوليسي»الأمريكية الشهيرة الرقم 15 في قائمة «أسوأ السيئين» لعام 2010 ووصفته بالحاكم المطلق المستبد من خلال قانون طوارىء استمر 30 عاما وأنه يعاني من مرض العظمة و الشك في أقرب الناس وعدم التركيز ورغبته توريث الحكم لأبنه جمال رغم عدم توافق ذلك مع الدستور ، فيما صنفته مجلة باردي عام 2009 بأنه ديكتاتور احتل الترتيب 20 كالأسوأ على مستوى العالم ، وثارت عليه منظمات شعبية وحقوقية وحركات سياسية مصرية، ورغم أنه استمر في الحكم لأربع فترات خلال ثلاثين عاما بواسطة استفتاءات عامة، إلا أنه لم يدرك الخطر أويقتنع أن العالم يتغير والشعوب ازدادت وعيا ، والإنسان ليس مخلدا ، والحكم شراكة لا اختطاف.
لهذا يبدو كيف هو حال الحاكم الحكيم الحليم الذي يتحمل مسؤولية النهوض ببلاده وتجنيبها ويلات الإنهيار العبثي، لذلك يجب أن يضع الحاكم عواطفه في الثلاجه فلا يحب ولا يكره والمعيار لديه هو الكفاءة والحرص على مقدرات الأوطان والشراكة نحو الأفضل ويقود كل ذلك برقابة ووعي وحرص ووطنية .
(الرأي)