كانت الساعة يومها تشير الى العاشرة والنصف ليلا،والدنيا رمضان،والقادم من امريكا،يريد ان آخذه الى بيوت ايتام ليتصدق عليها،وكنا ليلتها،في ليلة القدر.
في الطريق يقول ان لديه محلات تجارية قيمتها بملايين الدولارات تعرضت لخسائر دون سبب معروف،وهو يعرضها للبيع بأقل من ربع سعرها،ولا احد يشتري،وهموم الرجل كبيرة،وقد جلنا على سبعة بيوت،تصدق عليها من ماله القليل،بعد كل هذه الخسائر.
في اليوم الثاني كان يتصل ليتصدق اكثر واكثر،واقترحت عليه،ان يزود مساجد بالماء،وقد كانت سنتها المياه شحيحة،وهناك ازمة مؤذية،والبيوت والمساجد بلا ماء،فوافق وزود مساجد وبيوت بعشرات ناقلات الماء،وغادر بعد العيد الى امريكا.
لم تمر ايام حتى اتصل مجددا ليقول ان محلاته التجارية تم بيعها بسعرها العادل،وقد استعاد ثروته،وكان رأيه ان المكروب عليه ان يتصدق،حتى لو كان مدينا،بل زاد انه كلما غرق في الديون ذهب وتصدق،فترفع الديون عنه،وكأنه يقول ان الصدقة ترفع الكرب وتفك عقده.
هذا ثابت دينيا،ففي الحديث ان الصدقة تمنع ميتة السوء،وتطفئ غضب الله،وتفرج الكرب،وفيها سر،وهي في اعماقها اعتراف بأن اصلها مال الله،لا مال الشخص،والدفع هنا من مال الله واليه،ومعالجة الطمع والجشع،بحاجة الى رجال ُيقرون ان المال ليس مالهم.
في قصة اخرى أسمع عمن يتصدق لاجل طفل مريض،وعمن يتصدق عن أب مريض،وعن رزق معطل،او عن بيت بلا اطفال،وكثيرا ما نسمع قصصا عن فك الكرب في هذه القصص،لان الصدقة مفتاح يفتح الابواب المغلقة،خصوصا،ان العطف على يتيم او فقير بلا منّة او انتظار دعاء عند الباب،يرتد على صاحبه،ادرك ذلك او لم يدرك.
الله عز وجل،تعهد للانسان برد صدقته اضعافا مضاعفة،وفي النص القرآني اثارة للحياء في قلوبنا،والله يطلب من الانسان قرضا حسنا،ويتعهد برده مع ارباحه،والمفارقة هنا ان الله يطلب القرض من ماله هو،وعلينا ان نتخيل المشهد،الله يطلب من الانسان ان يداينه مالا من ماله هو،وفوق ذلك يقول للانسان انه سيرده مع ارباحه.
للصدقة سر آخر فهي تصل لروح من يرحل من اهلك او رحمك،والذي يفتقد عزيزا ويود لو يكرمه او يعطف عليه لو كان موجودا،ان يتصدق عليه،فكأنه اكرمه كما يريد.
ايام قليلة بيننا وبين رمضان،وهذا حث هنا،على امرين،اولهما ان لا يتذرع احد بقلة المال بين يديه،حتى لا يساعد غيره،فكثيرا من الهموم والكروب تزول والديون قد يسددها احسانك الى محتاج،دون ان نربط بين النية وانتظار النتيجة فهذا اشتراط على الله يحوي في باطنه اساءة ادب تفسد ما يفعله المرء.
ثانيهما ان كثرة في الاحياء والقرى والبوادي والمخيمات والهيئات والجامعات قادرة على ابتداع خطط خيرية جميلة في رمضان،عبر تشكيل مجموعة خيرية في كل كلية او مؤسسة او هيئة او حي تضع خطة لاجل الشهر الفضيل،ولمساعدة الناس،عبر افكار جديدة،حتى لا يكون الشهر مجرد صوم وعصبية وصدام في النهار،ونوم في الليل،فليس هذا هو رمضان اذ ان قيمته الاساس تتعلق بشعورك بالحرمان الذي يواجهه غيرك،حتى تسعى لاطفاء حرمانه،لا اطفاء حرمانك انت بهجوم نووي على الافطار.
الصدقة ليست على الغني فقط،اذ ان قروش الفقير مباركة ايضا،واعرف فقيرا لم يكن يملك سوى عشرين قرشا كان يريد شراء كيلو خبز لبيته،وفي الطريق سألته محتاجة يعرفها،بمنحها العشرين قرشا،فمنحها اياها راضيا، وعاد الى بيته بلا خبز،ولم يندم.
ذات الليلة وبعد منتصف الليل سمع من يقترب من باب منزله المعروف بكونه منزلا فقيرا،واستمع الى انفاس رجل يفتح الشباك الخارجي لباب منزله،بسرعة ويرمي شيئا ويغادر،واذ اضاء انارة البيت وتفقد الغرفة،اكتشف ان مغلفا به مائتا دينار تم رميه صدقة في منزله من فاعل خير لا يعرفه،وهو هنا،يستذكر العشرين قرشا ثمن خبزه،اذ عادت الاف الاضعاف على يد من لا يعرفه،لان عين الله لا تنام اولا،ولان الفقير حين تبرع بالعشرين قرشا كان يدفع كل ثروته في الحياة،وهو سبق ويسبق من هو اثرى ويتبرع ببعض ماله.
في هذه الجمعة،بيننا وخلف بوابتنا الاف البيوت المحرومة،وعلينا ان نتذكر الاف الوجوه التي لا تجد خبزا في معجنها،ويعشش الحرمان في عيون اطفالهم،وهو حرمان يسحق البركة ويسلب من حولهم كل راحة ومسرة،ماداموا متروكين اسارى لعوزهم،وعلينا ان نعرف سر شعورنا الدائم بالقلق والخوف،وكأن الريح تحت اقدامنا،انها مشاعر المحرومين التي لا تتبدد من حولنا وتحيطنا بطاقتها،فوق صيحات الجرحى والشهداء والمشردين في كل جوارنا،وهي طاقات ممتدة ،كما الجسد الواحد اذ يعاني من الحمى!!.
(الدستور)