في ذكرى الإسراء والمعراج القدس المبنى والمعنى
بلال حسن التل
28-05-2014 03:02 AM
إحياء المسلمين لذكرى الإسراء والمعراج يقودهم بالضرورة إلى الحديث عن المدينة المقدسة ومسجدها الأقصى. فإليها أُسري برسولهم، ومنها كان معراجه عليه السلام إلى السماء، وبوصفها كان امتحان مشركي قريش لصدق رسول الله «صلى الله عليه وسلم.. ومنذ الخليفة عمر بن الخطاب ظل الحفاظ على القدس مقياس قوة أمتنا، وحضورها الحضاري. فما من مرة خرجت القدس من يد أمتنا، إلا وكان ذلك إعلانًا على أن الأمة في أشد حالاتها ضعفًا، وأقل مراحل فعلها الحضاري الذي يسعى الغزاة إلى إلغائه، وتغييب معالمه ورموزه وخاصة في مدينة القدس كما يحدث الآن، حيث لا يكاد يمر يومٌ دون أن نقرأ أو نسمع أو نشاهد خبرًا عن انتهاكات يهود لمقدسات المدينة، في إطار سعيهم الحثيث لتهويدها، وإقامة هيكلهم المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى، الذي تقول التقارير إنه صار بناء معلقًا في الهواء، بفعل الحفريات الإسرائيلية المستمرة تحته، وتضيف التقارير كما يؤكد الخبراء، أن أية هزة أرضية حقيقية قد تؤدي إلى انهيار المسجد الأقصى، دون أن يلحق إسرائيل أي لوم، باعتبار ان الانهيار وقع نتيجة عامل طبيعي. وهو الانهيار الذي هيأت سلطات الاحتلال الكثير من الأسباب لحدوثه. فيهود يفهمون تمام الفهم، ان الأقصى يجسد الكثير من الدلالات والمعاني التي يسعون إلى إزالتها من عقول الأجيال. وهم لن يصلوا إلى ذلك، ومن ثم إلى إقامة هيكلهم مكانه إلا بهدم المسجد الأقصى هدمًا ماديًا ومعنويًا. فبموازاة الجهد الكبير المبذول لهدم المسجد الأقصى، هناك جهد كبير جدًا، ومتواصل يبذله العدو الصهيوني على صعيد بناء المستوطنات حول القدس، لعزلها عن محيطها العربي وتغيير طبيعتها الجغرافية والسكانية، بتحويل من ظل فيها من العرب إلى أقلية مضطهدة.
فما بين أعمال الحفر التي تستهدف هدم المسجد الأقصى، وأعمال البناء الاستيطاني التي تستهدف إغراق القدس بعناصر الوجود اليهودي، تقع صنوف من التضييق على بقايا العرب في المدينة، ابتداءً من غول الضرائب المتصاعدة الذي يلتهم كل دخول عرب القدس، وصولاً إلى منعهم من أي بناء في المدينة من شأنه تثبيت هؤلاء العرب في مدينتهم، حتى لو كان ذلك البناء مجرد غرفة صغيرة تضاف إلى بيت غص بسكانه.
إن كل هذا الذي يجري للقدس والمقدسيين، يتم في إطار إستراتيجية صهيونية ثابتة تهدف إلى جعل القدس عاصمة أبدية للكيان الصهيوني، يكون فيها الهيكل محل الأقصى. وهذه الإستراتيجية محل إجماع صهيوني، يعمل الجميع على اختلاف انتماءاتهم العرقية والمذهبية، والحزبية على تنفيذها.. كل من موقعه، ويسعى الجميع إلى توفير كل الإمكانيات المادية والمعنوية لتحقيق أهداف هذه الإستراتيجية، وفي سبيل ذلك تنفق المليارات.. في حين يقتر العرب والمسلمون على مدينتهم المقدسة تقتيرًا شديدًا، ويلحسون كل القرارات التي يتخذونها حول القدس عند خروجهم من قاعات الاجتماعات، أيًا كان مستوى المجتمعين: قممًا إسلامية، أو عربية، وزراء عربًا أو مسلمين، مؤسساتٍ رسمية، أو منظمات مجتمع مدني..الخ، فقد صار الانفصام بين القول والعمل سمة ثابتة من سمات هذه الأمة، بعربها وعجمها، بمسلميها ومسيحييها، وصار التحلل من الالتزامات نحو القضايا الكبرى من الأمور الطبيعية عند أبنائها.
يجري هذا في الوقت الذي يصرّ فيه العدو على موقفه من القدس كمدينة موحدة، وكعاصمة أبدية لكيانه، بينما قبلنا نحن بمبدأ تقسيم المدينة إلى شرقية وغربية، وسلمنا بأن الغربية حق خالص للمحتل، وقبلنا بالتفاوض حول الشرقية، بل قبلنا بتأجيل التفاوض حول القدس الشرقية إلى ما أسميناه «بالمرحلة النهائية» التي لن تأتي قط، وكأن القدس قضية ثانوية. بل أكثر من ذلك صرنا نحتال لنجعل من بعض الأحياء خارج المدينة المقدسة عاصمة لدولة فلسطين المزعومة، نتفاوض حولها مع العدو الإسرائيلي الذي يرفض التفاوض حول المدينة المقدسة، وهكذا انخفضت طموحاتنا حول القدس حتى صار غاية ما نتمناه.. ان يسمح لنا العدو بزيارتها تحت حرابه. وإذا بالغنا في أمنياتنا تمنينا عليه ان تكون أبو ديس عاصمة للدولة الفلسطينية الموعودة. أما الحديث عن تحرير القدس فقد صار من ضرب الخيال عند جيل مهزوم في هذه المرحلة من مراحل تاريخ أمتنا، الذي علمنا ان لا مستقبل للغزاة فوق هذه الأرض شرط أن نفهم لغتها، وشروطها وأولها: ماذا تعني القدس لوجودنا؟ وماذا تعني القدس في عقيدتنا؟ فالقدس في عقيدتنا ليست مجرد حجارة الأقصى فقد هدمت حجارة الأقصى أكثر من مرَّة في التاريخ وكانت أمتنا تُعيد بناءها، بعد ان تبني معناها في قلوب أبنائها ليستأنفوا حضور أمتهم الحضاري الذي ولد يوم الإسراء والمعراج. فهل تكون مناسبة الإسراء والمعراج نقطة انطلاق لإحياء حضورنا الحضاري الذي هو معنى وجود القدس في حياتنا؟. وهو أمر فهمه عدونا أكثر منا، فسعى إلى هدم المبنى ليهدم المعنى.
(الرأي)