في صباح يوم شتوي, أطلت الشمس بخجل مؤكدة من جديد سيطرتها على الحياة بالرغم من الاحتلال الذي فرضته أجواء البرد والمطر في الأيام الماضية. في ذلك الصباح استجمعت قواي وحفنة من الدنانير و رزمة من الفواتير العالق منها والجديد لعليِ الحق مكتب البريد في الساعة الأولى من بداية الدوام قبل أن يعج و يزدحم بالمراجعين.سرت و بيدي فواتيري , ظرف "اورانج" المكتنز بالأوراق _لا بد أن لديهم الأطنان منها_ الذي لم ولن اعرف يوما ما يحتويه من أرقام و عروض. ما اعرفه أني أجده على عتبة منزلي بين حين وآخر وانه يجب تسديد القيمة قبل أن يوقفوا الخدمة عني, وفاتورة الكهرباء تلك التي برشاقتها وخفتها تذكرني بذلك الجابي في صغري والذي كان يصدح بصوته من أسفل الدرج (كهربا ..كهربا)ويطلب من والدتي كرسي فيقفز عليه بخفة بالرغم من سنوات عمره الطويلة , و يمسح العداد بطرف كمه ليزيل ما تراكم عليه من غبار .
أتابع مسيري في شارع بغداد...وشارع بغداد لمن لا يعرفه من أقدم شوارع اربد وأكثرها حيوية فتراه دائما يعج بالسيارات و الناس الطيبين ورائحة الوطن . هناك حيث يقع البريد وعلى مقربة منه فرع البنك المركزي الأردني....سرت, ولوهلة خلت أني رأيت مقابل البنك آلية عسكرية كتلك التي نراها في مشاهد الحروب، كان يقبع خلف المقود جندي شهم من أبناء الوطن وشهم آخر شرواه على ظهرها يعتمر خوذة و يقف متحفزا خلف رشاش اجهل إذا كان معمرا بالذخيرة أم لا و أمام البنك تجمهر العديد من الناس منهم من كان عبثا يحاول إنشاء بداية صحيحة لطابور منظم , مواطنون عاديون بملابس ثقيلة تحميهم برد شباط وتقيهم لسعة برده يلفون رؤوسهم بشماغات بموروث خاص ليس له علاقة بالحالة الجوية ...افزغني المنظر مما جعلني أسرع في خطواتي لأصل إلى البريد وانهي مهمتي وإذ بالمشهد نفسه يتكرر و كأنها لحظة( ديجافو) أمرُ بها ولكن هذه المرة بوجود عناصر من الأمن العام و عدد قليل من النسوة اللاتي تجمعن حول بعضهن البعض مكونات جدار صد منيع يصعب اختراقه , وضعت الكثير من التكهنات بيني و بين نفسي لأفسَر قطع الأحجية...مواطنون عاديون ...رجالا و نساء....آليات عسكرية ...رجال شرطه ولكن أي منها أسعفني بجواب شاف, فقررت أن اخترق جدار الصد وأستعين بواحدة من النساء لتوضيح ألأمر, فدنوت من إحداهن وسالت:عفوا أختي شو في؟
نظرت إلي وكذلك فعلت بقية النسوة من حولها وكأني مخلوق فضائي هبط لتوه من كوكب آخر وأجابتني وملامح السخرية والاستنكار تعلوان وجهها : "هون بنستنى طول النهار تيصرفولنا الكوبونات ". وعقبت على جوابها بتعرفي كوبونات دعم بدل محروقات يعني, فتدخلت احداهن على الفور و بلهجة حادة وقالت على الدور يختي الله يرضى عليكي.الحق أنني سمعت عن توزيع تلك الكوبونات من قبل ولكني كنت اجهل تمام الجهل أنها توزع بتلك الطريقة الملحمية.
تذكرت فواتيري وتابعت مسيري وأنا انظر إلى ظرف اورانج المكتنز وفاتورة الكهرباء الرشيقة وقلت لنفسي إن من يصل إلى منازلنا جميعا أينما كنا و يسلمنا فواتير آخر كل شهر وبكل احترام قادر أيضا على أن يجد آلية يوزع فيها قيمة الدعم بشكل آخر يحفظ فيها ما تبقى من كرامة المواطن الأردني. وكل دعم وأنتم بخير.
sanaalmaaita@yahoo.com